بحث هذه المدونة الإلكترونية

الصفحات

الخميس، 27 أغسطس 2015

رواية ماجدولين ( ملخص )

ماجدولين


" تحت ظلال الزيزفون "هي الرواية التي كتبها الأديب الفرنسي ألفونس كار ، وقد اطّلع المنفلوطي على تعريبها ، فأعجب بها وأعاد صياغتها بأسلوبه الخاص ، ونشرها تحت عنوان " ماجدولين" أو" تحت ظلال الزيزفون ". والرواية هي باكورة أعمال ألفونس كارالأدبية كتبها متأثراً بالمدرسة الرومنسية التي سيطرت على الأدب في تلك الحقبة من تاريخ فرنسا . وقد اعتمد على أسلوب المراسلة في تدوين أحداثها ، تاركاً لعنصر الخيال دوراً أساسياً في تحريك أشخاص الرواية بين أحضان الطبيعة الخارجية التي أحبّها الكاتب وجعلها الإطار الأساسي لروايته.




لقد تأثر المنفلوطي برواية الفونس كار ، وبادر إلى نقلها إلى اللغة العربية ، لما فيها من دعوة صريحة إلى التمسك بقيم الحق والخير والجمال التي تجسدها البيئة القروية الريفية الساذجة . فأحداث القصة تدور في جو ريفي ، يتميز بالبساطة والعفوية والصدق والإخلاص والقناعة ، شبيهٍ بالجو الذي نشأ فيه المنفلوطي بمصر؛ على خلاف حياة المدينة القائمة على الخداع والكذب والغش والنفاق ، حيث يتهافت الناس على جمع المال دون مراعاة أبسط المبادئ والقيم الخلقية . 

والرواية تحاول التأكيد على أن الخلاف الحاد بين بيئة القرية وبيئة المدينة ، يؤدي إلى خلاف أكثرحدة بين مفهومين للسعادة : أحدهما يعتبرأن السعادة هي نتيجة نجاح المرء في التلاؤم والتكيف مع الظروف الواقعية التي تحيط به. والمفهوم الآخر يعتبرأن المال هو مفتاح السعادة أياً كانت الوسائل المستخدمة في الحصول عليه.

لم يكن المنفلوطي يجيد اللغة الفرنسية لينقل رواياته مباشرة إلى اللغة العربية ، لذلك كان يخرج غالباً عن الأصل ، فيلجأ إلى الإستطراد والتطويل وإلى الحذف والإضافة ، وفقاً لمزاجه ، أو رغبة في إظهار مقدرته البيانية حيناً ، واللغوية حيناً آخر . وكان ميله إلى المداخلة ، ويدفعة إلى التخلي عن الترجمة الحرفية والإنصراف إلى إسداء النصائح والإرشادات ، بما يتفق مع المفاهيم الأخلاقية السائدة في بيئته ، لأن معظم قرائه كانوا من شبان وشابات مصر وسائر الأقطار العربية.

والرواية في أساسها ، تدور حول فتى اسمه استيفن من أسرة متوسطة الحال ، يحب المطالعة ، ويتعشق الموسيقى ، ويأنس للطبيعة ، ويجد لذته في العزلة والبعد عن الناس ؛ يترك منزله بعد وفاة أمه وزواج أبيه ، ليسكن وحيداً في غرفة متواضعة ، حيث يحبّ ابنه صاحب المنزل واسمها ماجدولين، فتبادله الفتاة الحب ، فتتغير نظرة الفتى إلى الوجود ، ويمتلئ قلبه أملاً وبهجة. وتتكرّراللقاءات بين استيفن وماجدولين في أحضان الطبيعة الخلابة وعلى ضفاف الأنهر ، أوتحت شجرة الزيزفون القائمة في وسط حديقة المنزل ، أو في زورق على صفحة البحيرة القريبة من المنزل، فيحلم العاشقان بحياة مستفبلية سعيدة ، ويرسمان في خيالهما صورة بيتهما العتيد الذي سيضمهما ، وسيكون بيتاً متواضعاً تحيط به حديقة مزروعة بأزهارالبنفسج ، وأشجارالزيزفون .

لكن السعادة التي بدأت تلوح معالمها في خاطرالحبيبين ، قطعها والد الفتاة حين صارح ابنته بأنه غيرموافق على العلاقة التي تربطها بذلك الفتى الذي لا يستطيع أن يوفر لها السعادة التي تستحقها. وحين حاولت ماجدولين إقناع والدها بالعدول عن رأيه ، جاء ردّه سريعاً ، حيث كتب إلى الفتى رسالة عاجلة يدعوه فيها إلى مغادرة المنزل. إزاء هذا الواقع ، جاءت ماجدولين إلى حبيبها تودعه الوداع الأخير ، فتعاهدا على الوفاء ، وتبادلا خصلات من شعرهما تكون خاتماً في إصبع كلّ منهما ، حتى يمن الله عليهما باللقاء مجدداً.

افترق الحبيبان ، لكن فراقهما كان بالجسد فقط ، لأن علاقتهما الروحية ظلت قوية ، تعبر عنها الرسائل المتبادلة التي لم تنقطع. وعاد استيفن إلى منزل والده الذي انتهز فرصة عودة ولده إلى البيت ، ليزوجه بفتاة ثرية ، فأقام لهذه الغاية حفلة راقصة في داره ، وطلب إلى ابنه أن يراقص تلك الفتاة ويتودد إليها ، لكن الفتى لم يشأ أن يغضب أباه ، فأذعن لمشيئته مكرها ، لكنه صارحه فيما بعد بأنه لا يمكن أن يقبل بهذا الزواج ، مما أغضب الوالد والأقارب ، فقرروا طرد استيفن من البيت إلى غير رجعة ، فخرج باحثاً عن عمل شريف يكسب به قوته ، ويستعيد به حريته المسلوبة ، ويؤمن له العودة بكرامة إلى حبيبته بعد توفير المال اللازم لتحقيق حُلمهما المشترك.

في تلك الأثناء، أقام استيفن في بيت حقير ، وراح يبحث عن عمل يؤمن له القوت ، وظلت ماجدولين تبعث إليه برسائلها المتكررة مؤكدة له بقاءها على العهد مهما طال الانتظار . وفي تلك الغرفة الحقيرة الضيقة، يحل إدوار ضيفاً على صديقه استيفن ، ويقاسمه المأكل والمشرب والفراش . وكان إدوارعلى وشك بلوغ سن الرشد ، حيث يخرج من تحت وصاية عمه ، ويرث ثروة طائلة ، فيحسن استيفن معاملة إدوار، وينقذه من الموت إثر فضيحة أخلاقية أقدم عليها. وتشاء الأقدارأن تحل ماجدولين ضيفةعلى صديقتها الثرية سوزان ، فتتعرف إلى أسلوب الحياة التي يعيشها الأغنياء ، وتطلعها صديقتها على ما تملكه من الحلي والجواهر، وتتبادل الصديقتان الأحاديث والشجون ، فتعرف ماجدولين أن صديقتها سوزان تعشق شاباً غنياً مثلها ، وأنها على وشك ان تتزوجه ، فتبوح لصديقتها بحبها لاستيفن الذي تنتظر عودته إليها بعد تغير حاله ، فتلومها سوزان أشد اللوم ، وتقنعها بأن تتخلى عن أوهامها وتتزوج صديقها إدوارالذي ورث ثروة لا بأس بها ، وهو قادرأن يوفر لها السعادة التي تصبوإليها كل فتاة .

وتمرالأيام ويرث استيفن أحد أعمامه، وينصرف إلى إعداد العدة لتنفيذ حلمه ، فيباشر بإنشاء البيت الذي سيضمه مع حبيبته ، والحديقة التي تحيط به ، لينصرف بعدها إلى مفاجاة حبيبته بالخبر ، وحين يدخل عليها في حديقة بيتها ليبلغها الخبر، يفاجأ بها جالسة إلى جانب إدوار الذي خطبها إلى أبيها وهماعلى وشك أن يتزوجا ، وقد وضعت في إصبعها خاتماً من الماس، مكان الخاتم الذي نسجته من شعره ، وتعهدت له بأنه سيظل في إصبعها إلى آخرأيام حياتها .

إزاء هذا الواقع المؤلم ، يصاب استيفن بما يشبه الجنون ، فيعتل جسمه ، وتسوء حاله ، ويدخل المستشفى ، ويشرف على الموت ، ولا يعود إلى رشده إلا بعد أن تزوره ماجدولين برفقة صديقه إدوار ، ويتأكد انها لم تعد له ولا يمكن ان تعود إليه ، فيعدل عن فكرة الإنتحار، وينصرف كلياُ إلى الموسيقى، ويبرع فيها ، ويصبح من أبرز أركانها. أما إدوار ، فسرعان ما تسوء علاقته بزوجته تدريجياً كما تسوء حاله المالية ، فيبدد ثروته في القمار والشراب ، ويعلن إفلاسه . فيبيع قصره ، ويهاجر، حيث ينتحر بعيداً عن زوجته الحامل التي تبيع بيت أبيها لتفي ديون زوجها .

وتتصل ماجدولين باستيفن ، بعد ان حلت بها الكوارث المتعاقبة معلنة توبتها ، فتكتشف انه ما زال على حبه لها ، لكن كرامته تأبى عليه ان يعود إليها بعد الطعنة التي وجهتها إليه . ومع ذلك فإنه يبذل لها ولطفلتها اقصى حدود المعونة . وتتوالى الأحداث ، فتأتي ماجدولين إلى بيت استيفن صباحاً ، حيث تترك طفلتها الرضيعة مع رسالة مختومة تعلن فيها انها قررت الإنتحارغرقاُ في النهر المجاور ، وأنها تترك أمر طفلتها إليه . ولما ابلغ استيفن بالأمر، هب مسرعاً إلى النهر ، فاستعان بزورق أحد أصدقائه واستطاع انتشال ماجدولين إلى الشاطئ حيث تبين أنها فارقت الحياة . وحين عاد استيفن وقرأ وصية ماجدولين ، قرر وضع حد لحياته ، فأنشد سمفونية الموتى على غرار الموسيقار الكبير بيتهوفن ، ثم استشهد الحاضرين أن جميع ما يملكه قسمة بين صديقه فرتز وماجدولين الصغيرة . وأوصى صديقه فرتز أن يدفنه مع ماجدولين في قبرها ، وأن يتولى شأن الطفلة الصغيرة حتى تكبر وتختار زوجها بنفسها . وهكذا ضم ذلك القبر رفات حبيبين ، فرقتهما الحياة ، وجمعهما الموت .

الخميس، 13 أغسطس 2015

سارة والماكينة بين الاستغفال والاستغلال !

بسم الله الرحمن الرحيم
سارة والماكينة بين الاستغفال والاستغلال !
ما كاد الشعب يفيق من صدمة سوا التي أكلت الأخضر واليابس وأوهمت الناس بالثراء السريع
حتى أتت الأسهم لتعلن أنها بوابة المليونيرات وأيسر الطرق للوصول إلى امتلاك الثروات ولكن البالون
لم يمهل المكتتبين كثيراً فانفجر ليخلف من ورائه دمارا شاملا وضحايا لم يسلم منها إلا من كان
وراء تلك العاصفة وكأنه بالوعة لم تبق من عرق الكادحين شيئا وهي التي تعودت على قتل الأحلام
ووأد الطموحات لتبقى المسيطرة على الأسواق المالية وبقي الشعب يتحسر على أمواله التي ذهبت
وماهي إلا أيام قلائل وتظهر ماكينة سنجر التي عفا عليها الزمن وتقادمت عليها الدهور لتطل
علينا كذبة العصر باحتوائها على مادة الزئبق الأحمر التي تجعل الجن عبيدا وتحول الأوراق لنقودا والحجر ذهبا
 لتكون أول اختبار لنا على نشر الشائعات وتقبلها وسرعة استجابتنا لها دون تثبت وبحث تقصي
وأتت الحملة ثمارها وامتلأ سوق الغباء بالناس وصارت بيوت العجائز مقصد الشباب والشيب وكان من قبل
خاليا من الزوار إلا لدقائق معدودة بل إن البعض كان يتندر بهن ويأنف من زيارتهن ولكن الزئبق جعلهن
كنزا لا يمكن التفريط فيه ومزارا للصغير والكبير وبدأت تحاك المؤامرات وانتشرت الأخبار ودبجت المقالات
وكتبت التقارير وتسابق المذيعون والمذيعات لاستضافة العقول المسيرة وبدأ المحللون والأطباء النفسيون
في تحليل تلك المصيبة بعد أن اكتشف الناس أنها مجرد كذبة وانطلت على الشعب المسكين !
ومرت الأيام ونسي الناس تلك الضحكة ورغم أننا نحفظ مقولة " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " إلا أننا
لدغنا من نفس الجحر مرات عديدة مما يعني أن هناك مشكلة لكنها ليست في المقولة لأنها صادقة جدا
ومضت الأيام سريعة لتظهر لنا تلك الفتاة الحسناء ذات العيون الزرقاء والوجه الأبيض المليح و"تخرفن "
نصف الشعب فتسابق الكل مشاهير ومغمورين نساء ورجالا شيبا وشبابا دعاة وغلاة مقصرين ومتساهلين
فتاة جمعت النقائض في حسابها "الانستقرامي " فذاك داعية وهذا خطيب جامع وكاتب صحفي وإعلامي
وسكير ونكير ومتزمت وممثل ومغن وشاعر وهذه طفلة وتلك فتاة تلك امرأة مسنة لم يبق من الشعب إلا
القلة الكل انجر خلف معرفها لتبلغ في فترة وجيزة للمليون متابع فتاة لم يفكر أحد ولو للحظة واحدة في
أن يسأل أو يتحقق عن تلك الفتاة وإصابتها بمرض السرطان والأدهى أن هناك من حج أو اعتمر أو تصدق
باسمها ونيابة عنها وهناك من تبرع لها وأنفق من أجلها وهناك من دبج القصائد وكتب القصص والروايات
عن بطولتها !
شخصية مجهولة لا يعلم من يقف وراءها أهو رجل أم امرأة جر خلفه الشعب دون وعي استخدم صوراً مسروقة
ومرضاً عصريا ليسرق قلوب وعقول الناس تعاطف معه الشعب ليكتشف الحقيقة وليصدم مرة أخرى بطيبته
فما هي المشكلة ولماذا حصل ما حصل ؟ إن المشكلة تكمن في طبيعتنا التي لم نستطع التغلب عليها
وعاطفتنا التي تسيطر على مجمل قراراتنا وتسليم عقولنا للآخرين دون إعمال للفكر وتثبت عن المعلومة
يجب علينا أن نضع فلاتر لكل معلومة أو خبر وأن نترك التسرع والانجرار خلف الشائعات ولنجعل هذا
درسا لنا في قادم أيامنا فلا ندري من أين سنؤتى هذه المرة وربما تكون المصيبة أكبر من حلق الشَّعر وتأليف
الشِّعر والصوم والعمرة والحج والصدقة والزكاة من أجل قضية ملفقة وكذبة جديدة وعلينا أن نوقف تداول
القصص والروايات والأخبار والفتاوى التي لا مرجع لها وأن نتأكد قبل النشر فلربما هلكنا بسببها !

الخميس، 6 أغسطس 2015

رائحة أوروبا لم تكن تطاق !

رائحة أوروبا لم تكن تطاق!

أوروبا الحالية لا علاقة لها إطلاقا بأوروبا العصور الوسطى، أو حتى أوروبا القرن التاسع عشر. والأوروبي الحالي الأنيق والنظيف و«المفركس» لا علاقة له أيضا بذلك الأوروبي الذي عاش قبل بضعة قرون، والذي كان يعتقد أن الاغتسال يسبب أضرارا بدنية وصحية، وأن الأطفال الذين يستعملون الماء كثيرا تتعرض أبدانهم للهشاشة. في تلك الأيام البعيدة، كان أغلب الأوروبيين يغتسلون في مناسبتين، الاستعداد للزواج، أو في حالة المرض. هذه ليست نكتة، بل حقائق صدرت منذ سنوات طويلة في مذكرات الكاتب ساندور ماراي، الذي ولد في بداية القرن العشرين في عائلة بورجوازية ذات أصول نمساوية هنغارية، وأصدر كتابا يؤرخ لتاريخ الوساخة في أوروبا، بل أيضا لتاريخ الوساخة في عصره، حين يعترف بأن الاعتقاد الذي كان شائعا في عائلته الغنية هو أن الاغتسال الكثير يضر بالصحة.
ويقول ماراي في كتابه «اعترافات بورجوازي»، إن الحمامات وأماكن الاغتسال في قصور وإقامات الأغنياء كانت مجرد ديكور، وأن الكثير من هؤلاء الأغنياء كانوا يتذكرون الماء خلال الأعياد فقط، وأحيانا يغتسلون مرة واحدة كل عام. أكيد أن رائحة أوروبا كانت لا تطاق.
اعترافات هذا البورجوازي لم تقتصر فقط على ما عاشه وسط عائلته الغنية ومع عائلات بورجوازية أخرى، بل أيضا امتدت لتشمل تاريخا طويلا من العفن الأوروبي، والذي كان يبدأ بالتبرز في الشارع أمام الملأ، وينتهي بإلقاء الجثث المتحللة من النوافذ في انتظار أن تمر عربات نقل الجثث وتدفنها في مقابر جماعية ضواحي المدن.
الاغتسال في المرض..
يقول ماراي: «كان البورجوازيون الأوروبيون في نهاية القرن التاسع عشر يغتسلون فقط حين يمرضون، أو حين يكونون على وشك الزواج»، ورغم أن هذا الأمر يصعب تصديقه اليوم، إلا أنه كان حقيقة مرة خلال تلك الفترة، أي في القرن التاسع عشر وما قبله.
ويضيف ماراي في «اعترافات بورجوازي» أن الفكرة الشائعة في القرن الثامن عشر كانت هي أن الإنسان يستحم مرة واحدة في حياته. أما الأحصنة التي يركبها الناس فكانت ترش بمساحيق ولا تغسل بالماء والصابون، وأن المارة في شوارع المدن الأوروبية كانوا يضطرون للقفز فوق الفضلات البشرية حتى لا يدوسوها بأقدامهم».
ويستغرب ماراي كيف أن الكثيرين، مع بداية القرن العشرين، وعندما بدأت العادات الأوروبية في النظافة تتغير نحو علاقات أكثر ودا مع الماء، لم يكونوا يصدقون أن الأوروبي كان وسخا إلى درجة مقززة، باستثناء حقب معينة من التاريخ الروماني، وباستثناء طبعا العادات الشرقية في الاستحمام، حيث انتشرت الحمامات والعطور بشكل كبير في الشرق والبلدان الإسلامية، بينما ظل الإنسان الأوروبي يعاني من خوف مرضي من الماء.
ويشير ماراي إلى أنه في الفترة التي كانت نساء أوروبا يتزينّ ويتحلين بأبهى الملابس، فإن الشوارع كانت عبارة عن مزابل حقيقية، حيث كان السكان يضعون فضلاتهم في أكياس، ثم يرمون الأكياس عبر أقرب نافذة، والويل لمن كان له الحظ السيئ في أن تقع تلك الأكياس على رأسه.
«في العصور الوسطى، يقول ماراي، كانت شوارع أوروبا عبارة عن مرتع للفضلات ومعابر للواد الحار، وكانت تعبرها الحمير والبغال والأبقار والماعز والخنازير، فتضيف إليها ما استطاعت، وبعد ذلك يأتي الجزارون فيذبحون المواشي في الشارع العام فتختلط الدماء ومصارين الحيوانات بفضلات البشر، فيصبح كل ذلك منبعا لكل الأمراض الممكنة، وهذا ما جعل أوروبا في أحيان كثيرة مرتعا لأمراض فتاكة وأوبئة خطيرة فتكت بالملايين على مر العصور». كانت المشكلة الأساسية هي العداوة مع الماء.
الخنازير والمطر..
ويتحدث ماراي عن استثناءات أوروبية قليلة في روما وفي الأندلس. «كانت روما أو قرطبة وإشبيلية في أيامها العربية أنظف بكثير من باريس ولندن».
ويصف ماراي المنازل الأوروبية في العصور الوسطى بأن أغلبها كانت بلا غرف استحمام ولا مراحيض، وأن سكانها كانوا ينزوون في ركن قصي من الشارع ويقضون حاجاتهم من دون أي حرج.
ويروي ماراي قصة حدثت للفيلسوف والشاعر الألماني غوته، عندما كان في زيارة إلى إيطاليا، فذهب عند عامل الفندق يسأل أين يمكن أن يقضي حاجته، فأرشده إلى ردهة مفتوحة وسط الفندق.
غير أنه من أغرب ما يرويه كتاب «اعترافات بورجوازي» هو كيف كانت الفضلات البشرية تستعمل من أجل غسل الجلود وتلميع الزجاج، وأن «شركات» كانت تجمع تلك الفضلات في آبار عميقة لتعيد استعمالها في هذا المجال. ويضيف الكتاب: «كانت النظافة مقتصرة على الشوارع الكبرى أو الأماكن التي تمر منها المواكب الرسمية، وأفضل وسائل التنظيف في تلك الفترة هي ترك الخنازير تقتحم الأسواق والشوارع من أجل التهام الفضلات البشرية وبقايا الأكل والخضار، لكنها تلتهم الفضلات وتترك فضلاتها في الشارع، لذلك ينتظر الناس الأمطار لكي تتكفل بجر ما تبقى نحو الوديان والخنادق.
وفي إسبانيا، وبعد سقوط الأندلس وطرد المسلمين أو قتلهم، تحولت مدن البلاد التي كانت مثالا في النظافة والجمال إلى كرنفالات للأزبال. ويورد كتاب «اعترافات بورجوازي» وثائق رسمية من إسبانيا بين 1561 و1761 كيف أن مدينة مدريد مثلا كانت تمتلئ بالأزبال ويرمي فيها الناس المياه المستعملة من النوافذ، وأن ارتفاع عدد السكان في المدينة جعل من شبه المستحيل التخلص من الأزبال، وهو ما دفع المسؤولين إلى محاولة تنظيف الشوارع الرئيسية فقط.
الاغتسال يضعف البدن
ويتساءل ماراي كيف أنه مع عصر النهضة الأوروبية، لم يستطع الكثير من العلماء تفسير أسباب أمراض مثل السفلس أو الطاعون أو الكوليرا، بل إن علماء ظلوا يعتقدون أن الاغتسال بالماء الساخن يضعف الجسم ويعرضه للأمراض. وانتشرت «نصيحة علمية» تقول إن التنظيف يستحسن أن يكون بالوسائل الجافة ومن دون ماء، وأن الأطفال يجب أن ينظفوا وجوههم بخرق من الثوب الجاف، لأن استعمال الماء يفقد الوجه ألوانه الطبيعية ويجعله عرضة لأشعة الشمس وللرياح الباردة.
وحسب دراسة أعدها الكاتب الفرنسي جورج فيغاريل، فإن تقاليد الوساخة وكراهية الماء وصلت إلى الطبقات الأوروبية الراقية، وأنه في حقبة الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، وهو ملك سارت بذكره الركبان، كانت النساء الأكثر محافظة على أجسادهن وطهارتهن تغتسلن مرتين في السنة، وأن الملك نفسه كان يغتسل فقط بناء على وصفة طبية، وحين يقوم بذلك فإنه يأخذ في الاعتبار عددا من الاحتياطات الضرورية. ويصف أحد الأطباء الخصوصيين للملك لويس الرابع عشر عملية اغتسال الملك قائلا: «كنت أقوم بإعداد مكان الاغتسال من أجل الملك، وعندما يدخله فإنه يحس بجسده ثقيلا وبصداع في الرأس، وهو شيء لم يكن يحدث له، وهو ما جعلني لا ألح عليه في الاغتسال».
الاستحمام بواسطة الملابس
ويقول ماراي في «اعترافات بورجوازي» إن أفراد الطبقة الراقية كانوا «يغتسلون» بواسطة الملابس، أي أنهم كانوا يغيرون ملابسهم الداخلية باستمرار، أي مرة في الشهر، لأنها كانت تمتص العرق والوسخ، وكانوا يحبذون الظهور بملابس بيضاء.
ويحكي الكاتب الفرنسي بول سكارون، الذي عاش في القرن السابع عشر، في مسرحية «رومان كوميك»، كيف أن الخادم كان يأتي لسيده بمياه نقية ومعطرة، وأنه كان يكتفي بغرغرة بعض الماء المعطر في فمه ثم يبصقه، وينتهي الأمر.
ماراي يقول إن التقدم العلمي والتكنولوجي ساعد إلى حد كبير في تقريب الهوة بين الماء والأوروبيين، أو جزء كبير من الأوروبيين على الأقل، خصوصا وأن الحضارة الأوروبية صارت مهددة بشكل فعلي من القذارة. وفي القرن الثامن عشر، ظهرت بعض نزعات الطهرانية في بعض البلدان الأوروبية، وامتدت تقاليد القرب من الماء لتشمل إصدار قوانين يمنع بموجبها رمي الأزبال والفضلات البشرية من النوافذ، وأصبحت الكثير من المنازل تتوفر على مراحيض، حتى وإن كانت بدائية ولا تستعمل كثيرا، وأصبحت المجالس البلدية التي تسير المدن تنصح السكان بأن يرموا أزبالهم في أمكنة مخصصة لذلك. وفي سنة 1774 اخترع العالم السويسري كارل فيلهيم شيل مادة الكلور، والتي كان يتم خلطها مع الماء والصوديوم من أجل غسل وتنظيف الأماكن النتنة، وكان هذا الاختراع مكسبا كبيرا للإنسان الأوروبي من أجل السير قدما نحو الماء.
العلم أنقذ أوروبا
وفي القرن التاسع عشر، بدأت عدد من مدن أوروبا تستعمل وسائل خاصة من أجل عزل المياه المستعملة عن مياه الشرب. وفي إنجلترابدأت المراحيض تنتشر بشكل كبير وعليها عبارة «في سي»، وبدأ الأوروبيون ينظمون معارض ومؤتمرات حول آخر وسائل النظافة، وتم اكتشاف أدوية مضادة لعدد من الأمراض الوبائية مثل الطاعون والكوليرا والتيفوس والحمى الصفراء. لقد بدأ الأوروبيون يكتشفون أن الماء لم يكن سيئا إلى تلك الدرجة، وأنه من الممكن الوقاية ضد عدد كبير من الأمراض بوسائل بسيطة مثل غسل الأيدي قبل الأكل أو بعد الخروج من المرحاض. وبعد ذلك أصبح الصابون صديقا للأوروبيين بعد أن كان واحدا من أعداء الجسد.
وفي سنة 1847، اكتشف العالم الهنغاري، إينياك سيملويز، أسباب الإصابة بالحمى القاتلة، والدواء كان بطبيعة الحال هو اعتماد وسائل النظافة.
وفي سنة 1869، اكتشف العالم الاسكتلندي جوزيف لستر وسائل التعقيم ودورها في الحد من الموت بعد العمليات الجراحية، وهو ما دفع الأطباء طبعا إلى الاقتناع في النهاية بأن الماء لا يضر أبدا بالصحة.
لكن رغم كل ذلك فإن بعض الخوف من الماء ظل سائدا في أوروبا حتى بداية القرن العشرين، خصوصا بين أفراد الطبقات الشعبية وفي القرى والمناطق المعزولة، لكن مع مرور الأيام والسنوات تحولت أوروبا من قرية وسخة يرمي فيها الناس جثث موتاهم وفضلاتهم من النوافذ، إلى قارة مشتعلة نظافة وتوجد فيها سلات مهملات في كل زاوية وكل زقاق وعليها عبارة «أنا سلة مهملات» مكتوبة بخمس لغات، وكأن النظافة من أوروبا نحو العالم تفرقت.
أعمار الأوروبيين كانت قصيرة
لا أحد يعرف على وجه الدقة كيف تسللت تقاليد الوساخة إلى أوروبا، وكيف كانت هذه القارة منعزلة عن تقاليد النظافة التي كانت منتشرة في كل بقاع العالم تقريبا، حتى في أوساط الشعوب البدائية.
ويحكي المؤرخون كيف أن مدن الإمبراطورية الرومانية قديما كانت تتوفر على مراحيض عمومية، وكانت الحمامات التركية تنتشر في مناطق واسعة من شرق أوروبا وآسيا، بل إن هذه الحمامات كانت متعة حقيقية للناس العاديين الذين يعتبرون الاستحمام طقسا محببا يمارسونه بكثير من الحبور.
كانت تقاليد الوساخة تدفع بشكل طبيعي بعض ملوك فرنسا إلى قضاء حاجتهم أمام البشر. وكانت القناعة السائدة وقتها هي أن الوسخ حصانة طبيعية ضد المرض. أي أنه كلما استحم الإنسان أكثر إلا ووجدت الأمراض طريقا سهلا ومفتوحا نحو الجسد.
وعندما كانت الأمراض والأوبئة الفتاكة تعصف بأوروبا بسبب القذارة، كان الناس يمعنون في الوساخة ويحتفظون بالجثث في منازلهم إلى أن تمر عربات تجرها البغال من أجل حمل الجثث. وفي كثير من الأحيان، كان الموجودون في طابق علوي من المنزل لا يكلفون أنفسهم عناء إنزال الجثة عبر الأدراج، فيكتفون بإلقائها من النافذة، فيحملها عمال الجثث فوق العربة. وإذا كانت الجثة متحللة فإن أجزاء منها تبقى في الشارع لتنشر مزيدا من الموت.
أزقة المدن الأوروبية، التي لم تكن معبدة وكانت خليطا من الحصى والرمال، كانت مجمعا لكل أنواع القاذورات، وكان من الصعب تنظيفها، حيث يتم ترك تلك المهمة للمطر الذي كان المنقذ الأكبر للأوروبيين من الفناء.
كانت أعمار الأوروبيين في الماضي قصيرة جدا، وفي كثير من الأحيان لم يكن عمر الرجل أو المرأة يزيد عن خمسين سنة، وفي أحيان أخرى أقل. كانت الوساخة تتحالف مع الحروب والمجاعات والأوبئة لكي تحصد ملايين الأرواح، وكانت هذه معضلة إنسانية استمرت قرونا طويلة.
ورغم أن أوروبا أحدثت قطيعة نهائية مع الوساخة في بداية القرن العشرين، إلا أن المصادر التاريخية والوثائق التي تتحدث عن القذارة الأوروبية ظلت نادرة، ويبقى كتاب «اعترافات بورجوازي» واحدا من المصادر القليلة في هذا المجال. بل إنه حتى تاريخ الفقر في أوروبا، وهو فقر له جذور، لم يحظ بالأهمية المطلوبة، وكان عدد قليل من الدارسين يحاولون رسم المعالم الأولى لتاريخ الفقر في أوروبا، وابتدأت هذه المحاولات بداية سنوات الستينيات والسبعينيات.