بحث هذه المدونة الإلكترونية

الصفحات

الثلاثاء، 10 نوفمبر 2015

الحكمة في شعر أبي تمام

الهمزة

* ...................وقلما = يُلفى بقاء الغرس بعد الماء
وضعيفة فإذا أًابت فرصة= قتلت ، (كذلك قدرة الضعفاء)
مزقت ثوب عكوبها بركوبها = والنارُ تنبع من حضى المعزاء


الباء

*السيف أصدق إنباء من الكتب = في حدّه الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في = متونهن جلاء الشك والرّيب
والعلم في شهب الأرماح لامعة= بين الخميسين لا في السبعة الشهب
أين الرواية ، بل أين النجوم وما= صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
تخرّصا وأحاديثا ملفقة = ليست بنبعٍ إذا عُدّت ولا غَرَب
* .........................= والله مفتاح باب المعقل الأشب
* ليس الغبيّ بسيّدٍ في قومه= لكن سيّد قومه المتغابي
قد ذل شيطان النفاق وأخفتت = بيض السيوف زئير أسد الغاب
فاضمم أقاصيهم إليك ، فإنه = لا يزخر الوادي بغير شعاب
والسهم بالريش اللوام ولن ترى = بيتاً بلا عمدٍ ولا أطناب
* ...........................= وما كل الحلال بطيب
* الجد شيمته وفيه فكاهة = سجحٌ (ولا جد لمن لم يلعب)
شرس ويتبع ذلك لين خليقة = (لاخير في الصهباء ما لم تُقطب)
* تعب الخلائق والنوال (ولم = بالمستريح العرض من لم يتعب)
* ............................= ورُبّت معقبٍ لم يُعقب)
* أولى المديح بأن يكون مهذباً = ما كان منه في أغرّ مهذب
* لا تنكري منه تخديداً تجلّله = فالسيف لا يزدرى إن كان ذا شُطب
لا يدرد الهم إلا الهم من رجل = مقلقل لبنات الفقرة النّعب
* من غير ما سبب ماضٍ( كفى= للحر أن يعتفي حراً بلا سبب)
* رُبّ خفضٍ تحت السرى وغناء = من عناء ، ونضرةٍ من شحوبِ
* لا تصيب الصديق قارعة التأ = نيب ، إلا من الصديق الرغيب
غير أن العليل ليس بمذمومٍ = على شرح ما به للطبيب
لو رأينا التوكيد خطة عجز= ما شفعنا الأذان بالتثويب
* ومن لم يُسلم للنوائب أصبحت = خلائقه طُراً عليه نوائبا
وقد يَكهم السيف المسمى منيّة= وقد يرجع المرء المظفر خائباً
فآفة ذا ألا يصادق مِضرباً = وآفة ذا ألا يصادف ضاربا
تُحسّنُ في عينيه إن كنت زائراً = وتزداد حسناً كلما جئت طالبا
* وهل كنت إلا مذنبا يوم أنتحي = سواك بآمالٍ فأقبلت تائباً
* وما ضيق أقطار البلاد أضافني= وإليك ولكن مذهبي فيك مذهبي
ملعباً نلهو بزخرفه = ( وقد ينفّس عن جد الفتى اللعب)
* لن يكرم الظفر المعطى وإن = به الرغائب حتى يكرم الطلب
* إن تمتنع منه في الأوقات رؤيته = (فكل ليث هصور غيله أشِب)
* والصبح تخلف نور الشمس غرته = وقرنها من وراء الأفق محتجب
* والحرّ يسلبه جميل عزائه = ضيق المحل فكيف ضيق المذهب
* فأشفي من صميم الشكر نفسي = (وترك الشكر أثقل للرقاب)
* لو سعت بقعة لإعظام نعمى = لسعى نحوها المكان الجديب
* ..................................= (قد يشبه النجيبَ النجيبُ)
* غير أن الرامي المسدد يحتاط= مع العلم أنه سيصيب


الحاء

* وفارةُ المسك لا يُخفى تضوعها = طول الحجاب ولا يُزرى بفائحها


الدال

* شاب رأسي ، (وما رأيت مشيب الرأس= إلا من فضل شيب الفؤاد)
وكذلك القلوب في كل بؤسٍ = ونعيم طلائع الأجساد
طال إنكاري البياض وإن عمرتُ = حيناً ، أنكرت لون السواد
* كل شيء غثٌ إذا عاد والمعروف= غثٌ ما كان غير مُعاد
* ومما كانت الحكماء قالت : = ( لسان المرء من خدم الفؤاد)
* ومن يأذن إلى الواشين تُسلقْ = مسامعه بالسنة حداد
* ولكم عدوٌ قال لي متمثلاً : = كم من ودود ليس بالمودود! )
*وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ = طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت = ما كان يُعرف طيب عَرف العود
لولا التخوّف للعواقب لم تزل = للحاسد النعمى على المحسود
* ......................( فإنما = يلذ لباس البرد وهو جديد)
* ...........................= (فالدمع يذهب بعض جهد الجاهد)
وإذا فقدت أخاً ولم تفقد له = دمعاً ولا صبراً فلست بفاقدِ
* أحلى الرجال من النساء مواقعاً = من كان أشبههم بهن خدوداً
* فاطلب هدوءاً بالتقلقل واستثر= بالعيس من تحت السهاد هجوداً
* ......................( وإنما = خَلَق المناسب أن يكون جديداً )
* ......................(وإنما = ولد الحتوف أساودا وأسودا )
* ما إن ترى الأحساب بيضاً وضّحاً = إلا بحيث ترى المنايا سودا
* والدلو بالغةُ الرشاء مليئةٌ = بالري إن وصلت بباعٍ واحدٍ
* قالوا: الرحيل غداً لا شك ، قلت = اليوم أيقنت أنّ اسمَ الحمام غدُ
* واحذر حسودك فيما قد خصصت= إن العلا حسن في مثلها الحسدُ
* وطول مقام المرء في الحي = لديباجتها ، فاغترب تتجدد
* فإني رأيت الشمس زيدت محبة = إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
* وليس يُجلي الكرب رأيٌ = إذا هو لم يؤنس برمحٍ مُسدّدِ
* محاسنُ أصناف المغنين = وما قصبات السبق ألا لمعبدِ
* فلا دمع ما لم يجر في إثره دمٌ = ولا وجد ما لم تعي عن صفة
* وقالت : نكاح الحُب يفسد كله = وكم نكحوا حبّا وليس بفاسد
* غدا قاصداً للحمد حتى أصابه = (وكم من مصيب قصده غيرُ قاصد!)
هم حسوده لا ملومين مجده = وما حاسد في المكرمات
* يصد عن الدنيا إذا عنّ سؤدد = ولو برزت في زيّ عذراء ناهد
إذا المرء لم يزهد وقد صُبغت له = بعصفرها الدنيا فليس بزاهد
* وهيهات ما ريبُ الزمان بمخلدٍ = غريباً ، ولا ريب الزمان بخالدِ
* إذا انصرف المخزن قد فلّ صبره = سؤال المغاني فالبكاء له رِد
* وما أحد طار الفراق بقلبه = بجلدٍ ولكنّ الفراق هو الجلد
* إساءة دهرٍ أذكرت حُسن = إليّ (ولولا الشريُ لم يعرفِ الشهد)
* ..............................= ( ولا يقطع الصمصام ليس له حد)
* فإن تك قد نالتك أطراف = فلا عجب أن يوعك الأسد الوردُ
* بنا لا بك الشكوى فليس بضائر = إذا صح نصل السيف ما لقي
* لم تنكرين مع الفراق تبلدي = وبراعة المشتاق أن يتبلدا
* أذنِ المعبدة السّناد وأنئها = بالسير ما دام الطريقُ معبّدا
* سأجهد عزمي والمطايا ،(فإنني = أرى العفو لا يُمتاح إلا من الجهد
* سرين بنا زهواً يخدن (وإنما = يبيتُ ويمسي النجح في كنف الوخد
* ولو لم يزعني عنك غيرك وازعٌ = لأعديتني بالحِلم ، إن العلا تُعدي
* وإني رأيت الوسم في خُلُق التفى = هو الوسم لا ماكان في الشعر والجلدِ
* ولا تسألاني عن هوى قد = جواه (فليس الوجدُ إلا من الوجد )
* من القوم جعدٌ أبيض الوجه والندى= (وليس بنانٌ يجتدى منه بالجعد)
*وهل أسد العِريّس إلا الذي له = فضيلته في حيث مجتمع الأسد
* والسيف مغفٍ غير أن غراره = يفظ إذا هادٍ نحاه لهاد
* جاهدت فيه المال عن حوبائه = والمال ليس جهاده كجهاد


الراء

* حليمٌ والحفيظة منه خيمٌ = (وأي النار ليس لها شرارُ ؟ )
* رأيت صنائعاً مُعكت فأمست= ذبائح والمطال لها شِفار
وكان المطل في بدءٍ وعودٍ = دخاناً للصنيعة وهي نار
* لذلك قيل : ( بعض المنع أدنى = إلى كرمٍ وبعض الجود عارُ
* الصبرُ أجمل ، والقضاء مسلط = فارضوا به ، والشر فيه خيار
* لولا العيون وتفاح الخدود إذاً ما كان يَحسُدُ أعمى من له بصر
قالوا : أتبكي على رسم؟ فقلت لهم : من فاته العين هدّى شوقه الأثر
* إنّ الكرام كثير في البلاد وإنْ = قلوا كما غيرهم قُل وإن كثروا
* لولا الذي غرس الشتاء بكفه = لاقى المصيف هشائماً لا تثمر
* ما كانت الأيام تُسلب = لو أن حُسن الروض كان يعمّر
أوَلا ترى الأشياء إن هي غُيرت = سمجت ، وحسن الأرضِ حين تُغيّر
* ..................................= (والله قد أوصى بحفظِ الجار)
* دلّت زخارفة الخليفة أنه : = ( ما كُلّ عودٍ ناضرٍ بنضار )
* لا شيء ضائرُ عاشق ، فإذا نأى = عنه الحبيب فكل شيء ضائره
* وإذا الفتى المأمول أنجح عقله = في نفسه ونداه أنجح شاعره


السين

* لا تَنسَيَنْ تلك العهود ( فإنما = سمّيت إنساناً لأنك ناسي)
* إقدام عمرو في سماحة حاتم = في حلم أحنف في ذكاء إياسِ
لا تنكروا ضربي له من دونه = مثلاً شروداً في الندى والباسِ
فالله قد ضرب الأقل لنوره = مثلاً من المشكاةِ والنبراس
* إثرُ المطالب في الفؤاد وإنما = أثرُ السنين ووسمها في الراس
* غُرم امرئ من روحه فيها إذا = ذو السّلم أغْرم مطمعاً ولبوسا
كم بين قومٍ إنما نفقاتهم = مالٌ وقومٍ ينفقون نفوساً ؟!
* لو أن أسباب العفاف بلا تقى = نفعت لقد نفعت إذاً إبليسا
* أقاتل الهمّ بإيجافه = ( فإن حرب الهمّ حربٌ ضروسُ)


الضاد

* لم تنتفض عروةٌ ولا سبب = لكن أمر بني الآمال ينتقض
* لن يهز التصريح للمجد والسؤدد = من لم يهزّه التعريض 
* وأقل الأشياء محصولَ نفعٍ = صحة والقول والفعال مريض
* لا تطلبنّ الرزق بعد شِماسه = فتروضه سَبْعاً إذا ما
* لا عُوّض الصبر امرؤ إلا رأى= ما فاته دون الذي قد
* وإذا المجد كان عوني على المرء= تقاضيته بترك التقاضي


العين

* ................................= وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع
* تروح علينا كل يوم وتغتدي = خطوب كأن الدهر منهن يُصرع
حلت نطفٌ منها لنكس وذو النهى = يداف له سمٌ من العيش منقع
* ................................= وذو النقص في الدنيا بذي الفضل مولع
* ولم أر نفعاً عند من ليس ضائراً = ولم أرى ضراً عند من ليس ينفع
* وكل كسوف في الدراري شنيعة= ولكنه في الشمس والبدر أشنع
* رأيت رجائي فيك وحده همه = ولكنه في سائر الناس مطمع
* وما السيف إلا زبرة لو تركته = على الخِلقة الأولى لما كان يقطع
* توجّع أن رأت جسمي نحيفاً = كأن المجد يدرك بالصراع
فتى النكبات من يأوي إذا ما = قطفن به إلى خلق وساع
يثير عجاجة في كل ثغر = يهيم به عدّي بن الرقاع
* ..........................= ولولا السعي لم تكن المساعي
* لَحسنُ الموت في كرم وتقوى = أحب إليه من حسن الدفاع
ونغمة معتفٍ يرجوه أحلى = على أذنيه من نغم السماع
جعلتَ الجود لألاءَ المساعي = وهل شمسٌ تكون بلا شعاع ؟
وما في الأرض أعضى لامتناع = يسوق الذّم من جود مطاع
ولم يحفظ مضاع المجد شيء = من الأشياء كالمال المضاع
* والطائر الطائر في شأنه = يُلوي بخط الطائر الواقع
* وإنما الفتك لذي لأمة = شبعان أو ذي كرم جائع


الفاء

* لا عذر للصب أن يقنى الحياء ولا = للدمع بعد مضي الحيّ أن يقفا
حتى يظل بماء سافح ودم = في الربع يُحسب من عينيه قد رعفا
* قصد الخلائق إلا في وغى وندى = كلاهما سُبةٌ ما لم يكن سرفا
* يا منزلاً أعطى الحوادث حكمها = (لا مطل في عِدَةٍ ولا تسويفا)
* إن النشاء على جهامة وجهه = لهو المفيد طلاقة المصطاف
* وكذا السحائب قلما تدعو = معروفها الرواد إن لم تُبرق
* إنّ مَن عقّ والديه للملعون = ومن عق منزلاً بالعقيق
* الله عافاك من كربٍ ومن وصب = كاد السماح يذوق الموت من
* لم يبق ذو كرم إلا وجامعةٌ = ثقيلةٌ قد حناها الدهر في عنقه
* ما أول السامين بالعالي ولا = كل الجياد دُفعنَ قبل سوابقُ


الكاف

* فما تترك الأيام من هو آخذ = ولا تأخذ الأيام من هو تارك


اللام

* لا يطمع المرء أن يجتاب عمرته = بالقول ما لم يكن جسراً له العمل
* وابن الكريم مطالبٌ بقديمه = عَلِقٌ وصافي العيش لابن الزُّمّلِ 
والحمد شهدٌ لا ترى مشتاره = يجنيه إلا من نقيع الحنظل
غُلّ لحامله ويحسبه الذي = لم يوه عاتقه خفيف المجمل
* ...........................= (إن العقلَ أحرزُ معقل )
* وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة = مِن جاهه فكأنها من ماله
* فإنك لو ترى المعروف وجهاً = إذاً لرأيته حسناً جميلاً
* يوم الفراق لقد خُلقت طويلاً = لم تُبق لي جَلَداً ولا معقولا
* لو حار مُرتادُ المنية لم يُرد = إلا الفراق على النفوس دليلا
قالوا الرحيل فما شككت بأنها = نفسي عن الدنيا تريد رحيلا
أتظنني أجد السبيل إلى العزا = وجد الحِمام إذاً إليّ سبيلا
ردّ الجموح الصعب أسهل مطلبا = من ردّ دمعٍ قد أصاب مسيلا
* إني تأملت النوى فوجدتها = سيفاً عليّ مع الهوى مسلولا
* من كان مرعى عزمه وهمومه = روض الأماني لم يزل مهزولا
لو جاز سلطان القنوع وحكمه = في الخلق ما كان القليل قليلا
الرزق لا تكمد عليه فإنه = يأتي ولم تبعث إليه رسولا
لله درك أي معبر قفرة = لا يوحش ابن البيضة الإجفيلا ؟
* ولا شك أن الخير منك سجية = ولكن خير الخير عندي المعجّل
* لا تنكري عطل الغني من الغنى = فالسيل حرب للمكان العالي
* كالغيث ليس له = أريد غمامه = أو لم يُرد = بُدٌّ من التهطال
* هو الحق إن تستيقظوا فيه تغنموا = وإن تغفلوا ، (فالسيف ليس بغافل!)
* نأيُ الندى لا ثنائي خُلقة وهوى = (والفجع بالمجد غير الفجع بالغَزَل)
* وبيّن الله هذا من بريته = في قوله " (خُلق الإنسان من عجل")
* خير الأخلاء خيرُ الأرض همّته = وأفضل الركب يقرو أفضل السبيل
* وإنّ صريح الرأي والحزم لامرؤ = إذا بلغته الشمس أن يتحولا
* فليس الذي قاسى المطالب غدوة = هبيدا كمن قاسى المطالب حنظلا
* كذلك لا يُلقى المسافر رحله = إلى منقلٍ حتى يُخلّف منقلا
ولا صاحب التطواف يعمر منهلا = وربعاً إذا لم يُخل ربعا ومنهلا
ومن ذا يُداني أو ينائي وهل فتى = يحُل عرى الترحال أو يترحلا
* فإن الفتى في كل ضرب مناسب = مَناسب روحانيةً من يُشاكل
ولم تنظم العقدَ الكعاب لزينة = كما تنظمُ الشمع الشتيت الشمائل
* وإن جزيلات الصنائع لامرئ = إذا ما الليالي ناكرته معاقل
وإن المعالي يسترم بناؤها = وشيكاً كما قد تسترم المنازل
* مَثْلُ الصلاة إذا أقيمت أصلحت = ما قبلها من سائر الأعمال
* إن الرماح إذا غُرسن بمشهد = فجنى العوالي في ذراه معال
* والسيف ما لم يُلفَ فيه صيقل = مِن طبعه لم ينتفع بصِقال


الميم

* وفي شرف الحديث دليلُ صدقٍ = لمختبرٍ على الشرف القديم
* أحق الناس بالكرم امرؤ لم = يزل يأوي إلى أصل كريم
* ينال الفتى من عيشه وهو جاهل = ويُكوى الفتى في دهره وهو عالم
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا = هلكن إذن من جهلهن البهائم
جزى الله كفاً ملؤها من سعادة = سعت في هلاك المال والمال نائم
فلم يجتمع شرق وغرب لقاصد = ولا المجد في كلف امرئ والدراهم
ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه = مغارمَ في الأقوام وهي مغانم
ولا كالعلا ما لم يُرى الشِّعر بينها = فكالأرض غفلا ليس فيها معالم
وما هو إلا القول يسري فتغتدي = له غرر في أوجه ومواسم
يُرى حكمة ما فيه وهو فكاهة = ويقضى بما يقضي به ، وهو ظالم
* وليس ببان للعلا خلق امرئ = وإن جلّ وهو للمال هادم
له من إياد قمة المجد حيثما = سمت ، ولها منه البنا والدعائم
* ولولا خلال سنها الشعر ما درى = بغاة الندى من أين تؤتى المكارم
* فإذا تأملت البلاد رأيتها = تثري كما تثري الرجال وتعدم
حظ تعوره البقاع لوقته : = وادٍ به سفرٌ ووادمٍ مفعم
* حسد القرابة للقرابة قرحة = أعيت عوائدها وجرحٌ أقدم
* وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم = ( إن الدم المغتر بحرسه الدم)
* ووفيت (إن الوفاء تجارةٌ ) = وشكرت (إن الشكر حرثٌ مطعم)
* وعبادة الأهواء في تطويحها = بالدين فوق عبادة الأصنام
* الصبح مشهور بغير دلائل = من غيره ابتغيت ولا أعلام
* والصبر بالأرواح يعرف فضله = صبرُ الملوك وليس بالأجسام
لا تدهنوا في حكمه (فالبحر قد = تردي غواربه وليس بطام )
* لا يحسبُ الإقلال عُدماً بل يرى = ( أنّ المقل من المروءة معدم)
* وما أبالي (وخير القول أصدقه ) = حقنتَ لي ماء وجهي أو حقنت دمي
* إذا المرء أبقى بين رأييه ثلمةً = تسدّ بتعنيف فليس بحازم
* لن ينال العلا خصوصاً من الفتيان = من لم يكن نداه عموماً
* فعلمنا أن ليس إلا بشق النفس = صار الكريم يدعى كريما
طلب المجد يورث المرء خبلاً = وهموما تقضقض الحيزوما
فتراه وهو الخليّ شجياً = وتراه وهو الصحيح سقيما
تجد المرء في البرية منشورا = وتلقاه عنده منظوما
* ليس الصديق بمن يعيرك ظاهرا = مبتسماً عن باطن متجهم
* قد قلتُ للمغتر منه بصفحه : = (وأخو الكرى لم لو ينم لم يحلم)
* إن التلاد على نفاسةِ قدره = لا يُرغم الأزمات ما لم يُرغم
* خلقنا رجالاً للتصبر والأسى = وتلك الغواني للبكا والمآتم
وأيّ فتى في الناس أحرض من فتى = غدا في خفازات الدموع السواجم
وهل من حكيم ضيّع الصبر بعد = رأى الحكماء الصبر ضربة لازم !
ولم يحمدوا من عالم غير عامل = خلافاً لا من عامل غير عالم
رأوا طرقات العجز عوجاً قطيعة = وأقطع عجز عندهم عجز حازم
* ثلاثة أركان ( وما انهد سؤدد = إذا ثبتت فيه ثلاث دعائم)
* إن ابتداء العرف مجد باسق = والمجد كل المجد في استتامه
هذا الهلال يروق أبصار الورى = حُسناً وليس كحسنه لتمامه
* ومن شر المياه إذا استميحت = أواجنها على طول المُقام
* فإن يكن وصبٌ عانيت سَورته = ( فالوِردُ حلفٌ لليث الغابة الأضم)
إن الرياح إذا ما عصفت قصفت = عيدان نجد ولم يعبأنَ بالرّتم
بنات نعشٍ ونعشٌ لا كسوف لها = والشمس والبدر منه الدهر في الرّقم
والحادثات عدوٌ الأكرمين فما = تعتام إلا امرأ يشفى من القرم
فليهنك الأجر والنعمى التي عظمت = حتى جلت صدأ الصمصامة الخذم
قد يُنعم الله بالبلوى إذا عظمت = ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
* إن الجياد إذا علتها صنعة = راقت ذوي الألباب والأفهام
لتزيّد الأبصار فيها فسحة = وتأملاً بعناية القُوام
* النارُ نار الشوق في كبد الفتى = والبين يوقده هوى مسموم
خيرٌ له من أن يخامر صدره = وحشاه معروف امرئ مكتوم
* وما خيرُ برقٍ لاح في غير وقته = ووادٍ غداً ملآن قبل أوانه ؟!


النون

وليس يعرف كنه الوصل صاحبه = حتى يغادي بنأيٍ أو بهجران
* لانت مهزته فعزّ ( وإنما = يشتد بأسُ الرمح حين يلين )
وترى الكريم يعز حين يهون = وترى اللئيم يهون حين يهون
* لولا التفجع لادّعى هضْب الحمى = وصفا المشقّر أنه محزون
* ما أنس لا أنسَ قولا قاله رجل = غضضت في عقبه طرفي وأجفاني
نل الثريا أو الشّعري فليس فتى = لم يُغنِ خمسين إنساناً بإنسان!
* لو كان وصماً لراجٍ أن يكون له = ركنان ما هُزّ رمحٌ فيه نصلان
ولم يُعدّ من الأبطال ليثُ وغى = زُرّت عليه غداةً الروعِ درعان
* فما وجدتُ على الأحشاء أوقدَ مِن = دمعٍ على وطنٍ لي في سوى وطني
* من ذا يعظّم مقدار السرور بمَن = يهوى إذا لم يُعظم موضع الحَزَن ؟
والعيس والعم والليل التمام معاً = ثلاثةٌ أبداً لم يُقرنّ في قرَن
* كم في العُلا والمجدِ من بدعٍ = إذا تُصفّحت اختيرت على السّنن!
* في فرقة الأحباب شغلٌ شاغل = والثّكل صِرفاً فرقة الإخوان
* إن الجياد على علاتها صُبُرٌ = ما إن تشكى الوجا في حالةِ الأينِ
والنصل يعمل إخلاصاً بجوهره = لا باتكالٍ على شحذ من القينِ


الهاء

* لو أنه نبتٌ لكانت دونه = قضبُ البشام اللّدن للأفواهِ


الياء

* فلستَ ترى أقلّ هوىً ونفساً = وألزمَ للدنوّ مِن الدنيّ
* ومردود صفاؤهم عليهم = كما ردّ النّكاح بلا وليّ
* وهل مَن جاء بعد الفتح يسعى = كصاحب هجرتين مع النبيّ ؟!

تطور مطلع القصيدة من العصر الجاهلي إلى العصر العباسي

محمود محمدأسد
تطور مطلع القصيدة
من العصر الجاهلي إلى العصر العباسي
إنّ الكلمة الساحرة خير ما يعجب به العربي ، فللكلمة البليغة سحرها و أثرها في نفس العربي الذي طالما أعجب بها. و شدَّته دلالتها اللفظية من تناسب حروف و موسيقى إلى دلالتها المعنوية . و شعرنا العربيُّ قاموس بلاغتنا ، و دليل سحرنا و به أعتزّ العربيُّ و وقف مزهوا. وتباهت به القبائل إلى أن جاء بيان الله في محكم آياته كترسيخ لسحر الحرف و أثره. 
إن الشاعر العربي عاش متنقِّلاً كغيره في العصر الجاهلي يسير حيث يوجد الكلأ و الماء
و الاستقرار. بينه و بين السماء رفقة و عشرة مديدة، بينه و بين الأرض عهد مودة سرعان ما ينفصم مخلفا شريطا من الذكريات الجميلة ليحل في مكان آخر يزرع فيه الذكريات التي شدَّتْهُ وهزَّتهُ بعنف و حرارة فلم يجد أمامه سوى البوح عن خلجات نفسه وروحه ، فكان الشعر وحيَ النفس وبوحها عمَّا يحسُّ و يعاني . ما ذكرته مدخل لغرضنا الأساسي الذي ستظهر فيه علاقة القصيدة و شكلها بظروف الحياة ، و أخصُّ الوقوف على الأطلال فأغلب القصائد تتفق بوقفتها على الأطلال، و يمكن أن نستثني منها قلة من القصائد كمعلقة عمرو بن كلثوم الذي استهلَّها بالخمرة . في مطلع كل قصيدة وقفة حافلة الذكريات تُعْرَض ضمن شريط مجبول ومنسوج بالحزن و الأسى والعَبْرة و الاستجواب و استحضار طيف المحبوبة فلا تخلو قصيدة من ذكر أيام اللهو و الحب. و هذا ما يدعونا للقول : إن الوقوف على الأطلال حالة شعورية صادقة ، نقلها الشاعر من أعماقه و عن تجربة ، فيها لوعة و شوق و حب و ود و وفاء، و لنا رد على أولئك المتزمتين الذين اعتبروا الوقوف على الأطلال لازمة ضرورية خالية من أي مضمون و اعتبروها تقليدا و أشبه بالقانون الصارم الذي لا يمكن للشاعر أن يخرج عنه . لقد أساؤوا الفهم وغاب عن بالهم أن وقفة الشاعر الجاهلي على الأطلال وقفة حقيقية نابعة من أعماقه. و هو الذي يقضي حياته متنقِّلاً هنا وهناك . ما أن يستقر و يرمي حمله و عصاه و يجمع خيامه و يضرب أوتادها في الأرض حتى يقتلعها ،و يحزم أمتعته استعداداً لرحلة جديدة ، و في كل مرة يترك قلباً متفجراً بالأسى و عبرة تسبح في بحر أحزانه و ذكرياته. تعذّبه آلام العشق و الهوى التي تَتّحد مع كل رحلة و هو الذي يعيش على الفطرة و العفوية بعيدا عن التكلّف و المدنيّة و لهذا أكثر من ذكر محبوبته في القصيدة الواحدة كامرئ القيس و غيره، من الطبيعي أن يجد القارئ في شعره تلك النفخة الوجدانية البدوية التي ينفثها من قلب حزين دون إذن مسبق مما يستدعيه البكاء و ذكر الدموع و الشوق فلنسمع تلك النفحات من امرئ القيس : 

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
فتوضح فالمقواة لم يعف رسمها


بسقط اللّوى بين الدخول فحومل
لما نسجتها من جنوب و شمأل
فأسماء الأماكن و تداعي الذكريات غالبة على كل القصائد الجاهلية فطرفة بن العبد يقول في معلقته : 
لخولة أطلال ببرقة ثهمد


تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
لا بد من الوصول إلى نتيجة حتمية من وراء هذه المعلقة . إن الوقوف على الأطلال
في الشعر الجاهلي من صُلْبِ الواقع. و محرِّكُهُ الوجدانيُّ المعاناةُ و هو ترجمان النفسِ
و انعكاس لأحاسيسها و قد ساعدت عليه الظروف الاقتصادية و الاجتماعية و الطبيعية مجتمعة فلا تخلو قصيدة من اسم لمحبوبة أو مكان أو لشخص .. حومة الجندل
– الدخول- حومل .. أم أوفى – خولة – برقة – ثهمد – أم جندب – سلمى إنها لا تختلف عن مجموعة من الصور و الأفلام التي يلتقطها الإنسان في وقتنا الحاضر بين وقت و آخر يجترّ شريطها و يستمع بالذكريات و يقرِّبُ إليه أيام لهوه و سعادته فزهير بن أبي سلمى يقول :

صحا القلب عن سلمى و قد كاد لا يسلو


و أقفر من سلمى التعانيق و الثقل
فالتعانيق والثقل أسماء لأماكن وجدت فيها سلمى ولا يغيب عن بالنا أثر الحالة النفسية للشاعر الجاهلي الذي عرف برقة الطبع والمشاعر رغم صعوبة الحياة و قساوتها
و كذلك طبيعة تكوينه الفنية. خيالُه خصبٌ صافٍ و ذاكرتُه متدفِّقةٌ و نشيطة و بساطة حياته تجعل المخزون العاطفي متدفِّقا و التقليدُ قد يكون انعكاسا حقيقيا لقيم سائدة
و العربيُّ حريص على القيم و لهذا أؤكد بأن الوقوف على الأطلال صورة حقيقية و صادقة و ليست تقليدا خاليا من الإحساس و المشاعر كما يدَّعي بعض النقاد و لا يمكن أن نحارب تقليدا و أعرافا و نفرض أعرافا جديدة و هناك مسافة زمنية طويلة خلفت أجيالا و فنونا في التعبير. 

و تأتي رياح الوافد الجديد ألا وهو الدين الإسلامي الجديد حاملا معه سحرا حلالا ترك ألبابَ العرب تحتار من روعة إعجازه الذي لا يأتيه الشكُّ بين يديه. و بقيت القصيدة العربية في مرحلة أقرب إلى الاستقرار على نهج الجاهلين فأغلب الشعراء المخضرمين كحسان و كعب و لبيد و الحطيئة و غيرهم ما زالوا على عهدهم بالشعر و تقاليده ونذكر وقفة كعب بن زهير بين يدي رسول الله عندما قدم معلنا إسلامه و توبته و طالبا عفو رسول الله بعد أن أهدر دمه لأنه هجا المسلمين ، فقال : 
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول


متيَّمٌ إثرها لم يفد مكبول
فالمطلع جاهلي و فيه الغزل و رغم ذلك أعجب الرسول بالقصيدة فخلع بردته و أكرمه و أعلن العفو عنه و في هذا المجال لا بدًَّ أن نعرِّجُ على نقطة ذات أهمية فقد ذكر بعض النقاد :
 إنْ الشعر في هذه الحقبة ضعف وخمدت ريحه و ثورته  أرى أن الشعر لم يضعفْ من الناحية الفنية بل خمدت ريحه و ثورته و هذا عائد لأسباب متعددة في مقدمتها إحساس العربي بإعجاز القرآن و بلاغته و تفوقه بلا شك على القصيدة إضافةً إلى اهتمام المسلمين و الالتفات إلى حفظه وتلاوته و انشغالهم بالفتوحات و نشر الدعوة الجديدة ، و هناك جانب هام يجب أن يذكر في هذا الصدد ‘ فمادة الشعر و وقوده في العصر الجاهلي العصبية القبليّة و النزق و الخمرة
و الفحش و النساء . و الإسلام يمنع و يعاقب في مثل هذه الأمور و نعرف قصة حبس الحطيئة في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب عندما هجا الزبرقان ببيت ظاهره مدح و باطنه هجاء و ذم و يضاف إلى ذلك أن الفترة الإسلامية الأولى جاءت بعد أن فارق الساحة الشعرية أعلام الشعر الجاهلي و جيل الكبار منهم كالنابغة و زهير و عنترة و الأعشى وغيرهم. 

إن الإسلام هذب مضمون الشعر و القصيدة و لم يقف في وجهه بل أقر بدوره ومكانته و اعتبره سلاحاً موجها على المشركين و الأعداء و قد أعجب الرسول ( ص ) و عمر بشعر عنترة و زهير و غيرهما لما في شعرهم من معان و مواقف رائعة و كذلك أكرم كعبا و حسان. 
بعد هذا يمكننا القول : إن القصيدة العربية لم تضعف بل هُذِّبتْ و قضت فترة مبيت شتوي إلى أن جاءها المخاض من جديد في العصر الأموي فتهيأت لها الأسباب المساعدة للانتعاش من خلافات سياسية و أحزاب و عصبية أججت نار الشحناء بين عرب الشمال و الجنوب و بين الأحزاب السياسية من شيعة و خوارج و أهل سنة إلى أمور أخرى ، بين بيت الأموي الحاكم و البيت الهاشمي و غيره ،هذه الأمور أعادت للقصيدة جاهليتها حيث الفخر و الحماسة و المدح و الهجاء . و تمثَّل ذلك في النقائض و شعر الخوارج فانتعش الشعر من جديد و ظهر شعراء من الطبقة الأولى كجرير و الفرزدق و الأخطل و الكميت و جميل و ذي الرمة و غيرهم ممن لا يقلِّون مكانة عن مكانة شعراء الطبقة الأولى و الثانية في العصر الجاهلي و الملاحظ في العصر الأموي أن شكل القصيدة أصابه شيء من التطور فالوقوف على الأطلال استمرَّ لدى الكثير و نخصُّ منهم ذا الرمة و جريرا والأخطل و الفرزدق و لكن ظهرت المقطوعات الشعرية ذات الموضوع الواحد كغزليات عمر بن أبي ربيعة و خمريات الوليد بن يزيد الذي عرضها بأسلوب قصصي يعتمد على وحدة الموضوع ومن المفيد أن نذكر حرص الدولة الأموية على هوِّيةِ الشعر و السياسة ولذلك ابتعد الشعر عن التطور السريع و المفاجئ فبقي في قالبه العربي شكلاً
و مضموناً في منأى عن العنصر الأعجمي الذي لم يدخل ساحة الأدب و الشعر و السياسة
إلا في العصر العباسي وهو العصر الذهبي للأعاجم و للثقافة الإسلامية العربية معا و قد تهيأت له الظروف المساعدة ...

إن العصر العباسي كان حافلاً بالمستجدات المطروحة على أنماط الحياة المختلفة فلم يبق العرب على منبر الخلافة منفردين فظهر العنصر الأعجمي و بشكل خاص الفارسي و الرومي
و حصل التزاوج و الاحتكاك وشرَّع العرب نوافذهم للثقافات الوافدة المختلفة وتنشَّطَ من كان خامدا لخوف و رهبة فوجد أمامه الباب مفتوحاً. فُسِّرَ القرآن و جُمِعَ الحديث و دُوِّنَ و ترجمت الكتب و ظهرت النظريات الكلامية و استقرَّ المسلمون فبنيت بعض المدن كبغداد و توسع الاستقرار في المدينة على حساب الحياة البدوية فانتقل الناس من الخيام إلى البيوت و ما فيها من بناء و متعة ... 

أليس كافيا للتغيير و التجديد في منحى الحياة و طريقة الحياة ؟ و هذا فعلاً و يمكن أن نطلق القول عن هذه الفترة بأنها فترة تلاقح ما بين الثقافات الوافدة و الثقافة العربية فظهرت علوم حديثة كالفلسفة و المنطق و الفلك و العلوم و ترجمت آثار الأعاجم الهامة  كليلة و دمنة و كتب أرسطو و أفلاطون .... 
في هذه الظروف المتداخلة والمعقّدة برز شعراء و كتاب من أصل أعجمي و دخلوا معمعة التنافس بثبات فمنهم من دخلها بحسن نية كأبي تمام و ابن الرومي و منهم من دخلها و هو يحمل شيئا في أعماقه يريد التعبير عنه متحدِّيا العرف و المجتمع كبشار بن برد بمجونه و شعوبيته و أبي نواس الذي يطلُّ على الساحة متحاملاً على العرب و تراثهم معلنا سخريته من العرب ووقوفهم على الأطلال و منازل الديار ... إلى هنا و الأمور طبيعية و لكن ما نريد قوله و الوصول إليه : هل من المنطق أمام هذه التطورات أن تبقى القصيدة العربية في ثوبها المألوف الذي لم يعد يليق بها بعد أن مرَّتْ عليها فصولْ و أنواء ؟ فلا بد أن يشمل التغيير شكل و مضمون القصيدة فالمضمون تطور لدرجة كبيرة فلم تعد القصيدة سطحية بأفكارها و معانيها بل بدأنا نحتاج لكد ذهني و تأمُّل في فهمها. و هل نسينا الخصومة حول مذهب أبي تمام و البحتري و كذلك حول المتنبي و مثله المعري؟ فمضمون القصيدة أصابهُ عمقٌ فكريّ لدرجة جعلت القراء ينفرون منه و بخاصة المتمسكون بالثوب القديم و اعتبروه خروجا عن عمود الشعر العربي و لكن المعركة الحامية ظهرت في شكل القصيدة و مطلعها . 
صحيح أن أبا نواس هاجم مطلع القصيدة العربية و دعا إلى تجنب الأطلال في أكثر من قصيدة بحجة التجديد الذي يجب أن يشمل كل شيء في الحياة و كذلك يعلن موقفه من الوقوف على الأطلال و لا أعتقد أنه ينبغي ذلك بل مدخلاً للتعبير عن شعوبيته و حقده الدفين :
قل لمن يبكي على رسم درس
لا تبكِ ليلى و تطربْ إلى هند


واقفاً ما ضرَّ لو كان جلسو اشربْ إلى الوردِ من حمراء كالورد
فدعوة أبي نواس شعوبية يخفي وراءها كرهاً للعربية وحقدا دفينا و هذه الدعوة التي دعا إليها قادمة آجلا أم عاجلا ... و هذا الذي نقوله يؤكده الشعراء الذين سبقوه أو لحقوا به لقد بدأ الشعر يخرجون عن نهج القصيدة الذي ألفناه في الجاهلية فالشاعر الذي عاش في العصر العباسي و احتكَّ مع الأحداث و المستجدَّات عن قرب لا بد أن يعبِّر عن همومه أو يوظف تجربته و حكمته و هذا ما نجده في مطلع القصائد فقد خرج الشعراء بمحض إرادتهم دون دعوة موجهة يبتغى من ورائها التشهير و الطعن و إبراز التميُّز فأبو الطيب المتنبي تكثر الحكمة عنده و التي استهل بها قصائده : 
لكل امرئ من دهره ما تعوَّدا


و عادة سيف الدولة الطعن في العدا
و قوله أيضاً في قصيدة ثانية : 
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا


و حسب المنايا أن يكنَّ أمانيا
إن تطوُّرَ الحياة لا بد أن يؤثِّرَ في حياة الناس عامة و الشعراء بشكل خاص لما يملكون من رِقَّة و إحساس و عدسات لاقطة فابن الرومي بعد تأمُّل و معانة وصل إلى هذه المطلع الشعري العميق المستخلص من تجاربه : 
سليمُ الزمان كمنكوبهِ


و موفورهُ مثلُ محرومِهِ
و أبو العتاهية يعتمد على المقطوعات الشعرية ذات الغرض الواحد فيعلن تجربته و حكمته بعد اختبار لمستجدَّات الحياة : 
مَنْ عرف الناس في تصرُّفهم


لم يَتَتبَّعْ مِنْ صاحبٍ زللا
فالحكمة و المصائب و المعاناة أصبحت اللازمة و المطلع المناسب لأغلب القصائد و هذا طبيعي و حصيلة انعكاس لثقافة العصر و تعقيداته الاجتماعية و السياسية فلم تعد هناك حاجة للوقوف على الأطلال طالما أنهم استقرّوا في المدن و استوطنوا البلدان. إذاً الخروج عن نهج القصيد لم يكن مذهباً فكرياً أو دعوةً كما يحلو للبعض أن يحكم عليها بل هي محصلة طبيعية دون اللجوء إلى العمليات القيصرية كما أرادها أبو النواس و غيرُه الذين أرادوا أن يحقِّقوا مآربهم و الأسماء كثيرة من المتنبي إلى المعري رجوعاً إلى أبي تمام و بشار و الوليد بن يزيد وغيرهم فنجد في شعرهم الشكوى من الزمان و الإنسان و العتاب المر ومنهم من استهلَّ قصائده بالخمرة فأشْجعُ السلمي و هو شاعر عباسي يمدح الرشيد مستهلا قصيدته بوصف الخمرة : 
لا عيش إلا في جنون الصبا
كأسٌ إذا ما الشيخُ والى بها


فإن تولّى مجنونُ المدام
خمسا تردَّى برداءِ الغلام
ومن جانب آخر نرى الشاعر مطيع بن إياس يشارك الطبيعة و يخاطبها شاكيا الزمان من قلب مفعم بالحزن : 
أَسْعِداني يا نخلتي حلوان
و اعلما أنَّ ريبَهُ لم يزل يُفْرِ


و ابكيا لي من ريب هذا الزمان
قُ بين الألاّف و الجيران
كل هذه المطالعُ تُوصلنا إلى أنَّ مطلع القصيدة و مضمونها تطوَّرا بشكل طبيعي فما الحكمة إلا بوح نفسي لما يختلج في نفس الشاعر حالها كحال الوقوف على الأطلال و لكن من المنطق التعايش مع الواقع والتأثرُ به ، فأبو تمام يستهل قصيدته البائية في وصف معركة  عمورية  و مدح المعتصم بالحكمة و فيها يعبِّر عن وجهة نظر في المنجمين و كذلك أبو الطيب المتنبي يقف هذه الوقفة في وصف لمعركة الحدث ونرى هذا في قصيدة أبي البقاء الرندي في الأندلس و قبله البحتري في سينيته المشهورة و أبو العلاء المعري في رثاء الإنسانية : 
غيرُ مجدٍ في ملَّتي و اعتقادي


نوح باك و لا ترنُّم شاد
و كذلك في رثائه لجعفر بن علي المهذب: 
ومن أبى في الرُّزْءِ غير الأسى
و الشيءُ لا يكثُر مدَّاحُهْ


كان بكاهُ منتهى جهده
إلاَّ إذا قيس إلى ضدِّه
بعد كل ما تقدم أرجو أن أكون قد وصلْتُ إلى نتيجة خلاصتُها أنَّ الوقوف على الأطلال ليس إلا انعكاسا و إحساساً بواقع مألوف و إن استهلال القصائد بالحكمة و العتاب
و الشكوى و غير ذلك في العصر الأموي و العباسي ليس إلا انعكاسا طبيعياً جاء في وقته
و إن ما دعا إليه أبو النواس كان مقررا أن يأتي في وقته المناسب و لكن شاء أبو نواس أن يظهر شعوبيته كما يظهرها روَّاد الحداثة التي لا تحمل سوى الهدم لتراثنا لأنها تنسف الجذور ، و تفتح المجال لدك الثوابت في لغتنا و تفكيرنا و لا نعتقد أن الحداثة مرهونة بالشعر فحسب ... ويبقى الأدب في كل مراحل التاريخ مرآة تعكس متطلبات الحياة و مؤثراتها و الأدباء أكثر الناس تأثيرا في الحياة و مستجداتها و الجديد يجدُ مَنْ يعارضه و يناقشه و يخاصمه و ما هذا إلا خير للأدب و الثقافة فأدب من دون جديد ونقاش و جدلٍ مدروس يؤول إلى جماد ، و نعلمُ أنَّ كلُ جديد سيصبح قديما كما قال الناقد ابن قتيبة في مقدمة كتابه  الشعر و الشعراء  

المراجع : 
1. الفن و مذاهبه في الشعر العربي ، د. شوقي ضيف. 
2. مصادر الشعر الجاهلي ، د. ناصر الدين الأسد.
3. اتجاهات الشعر العربي في القرن الهجري ، د. محمد مصطفى هدره. 
4. التطور و التجديد في الشعر الأموي ، د. شوقي ضيف.