بحث هذه المدونة الإلكترونية

الصفحات

الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

أركان القصة القصيرة ( النية الفنية )

أركان القصة القصيرة


(البنيــــــة الفنيـــــــــة)

يختلف منظرو القصة القصيرة، اختلافاً كبيراً حول طبيعة أركانها وعددها حسب فهم كل منهم لماهية القصة القصيرة، وقد اعترضتنا هذه الخلافات، وبعد مطالعة عدد كبير منها ومقارنة بعضها ببعض انتهينا إلى ضبط بضعة أركان أساسية تكاد تتفق معظم الآراء على أهميتها ولزومها في أية قصة قصيرة فنية.

وفيما يلي عرض لهذه الأركان وبيان لعناصرها:
1- الحدث وطرق بنائه:

يعد الحدث أهم عنصر في القصة القصيرة، ففيه تنمو المواقف، وتتحرك الشخصيات، وهو الموضوع الذي تدور القصة حوله.([1]) يعتني الحدث بتصوير الشخصية في أثناء عملها، ولا تتحقق وحدته إلا إذا أوفى ببيان كيفية وقوعه والمكان والزمان، والسبب الذي قام من أجله. كما يتطلب من الكاتب اهتماماً كبيراً بالفاعل والفعل لأن الحدث هو خلاصة هذين العنصرين.([2])

لقد اتضحت ملامح الحدث القصصي على يد الكاتب الفرنسي"موبسان" بتأثير من الاتجاه الواقعي الجديد، والذي يرى أن الحياة تتشكل من لحظات منفصلة، ومن هنا كانت القصة عنده تصوّر حدثاً واحداً وفي زمن واحد لا يفصّل فيما قبله، أو فيما بعده، ومنذ دعوة"موبسان" سار جل الكتاب على نهجه وعدوا ركن الحدث عنصراً مميزاً للقصة، وحافظوا عليه كأساس فني لا ينبغي تجاوزه. ومن أشهر كتاب القصة الذين تتضح في كتاباتهم هذه الخاصية: أنطوان تشيكوف، وكاتريل ما نسفيلد ولويجي براندللو.([3])

وأهم العناصر التي يجب توفيرها في الحدث القصصي هو عنصر التشويق، وفائدة هذا العنصر تكمن في إثارة اهتمام المتلقي وشده من بداية العمل القصصي إلى نهايته وبه تسري في القصة روح نابضة بالحياة والعاطفة.([4])

ويعد كذلك زمن الحدث أهم هذه العناصر، وهو ينطوي على مجموعة من الأزمنة، وهي((زمن الحبكة وزمن القصة وزمن العمل القصصي نفسه ثم زمن قراءته))([5])، 

كما أن للحدث مجموعة من الخصائص من شأنها أن تزيده قوة وتماسكاً كالتعبير عن نفوس الشخصيات، وحسن التوقيع والانتظام في حبكة شديدة الترابط وأن يكتسب صفة السببية والتلاحق.([6])
وحتى يبلغ الحدث درجة الاكتمال، فإنه يجب أن يتوفر على معنى.([7]) وإلا ظل ناقصاً. كما أنه توجد طرق فنية لبناء الحدث القصصي وطرائق لصوغه نعرض لأهمها بإيجاز فيما يلي:

أ- طرق بناء الحدث:

يستعمل كتاب القصة القصيرة ثلاث طرق لبناء أحداث قصصهم، خصوصاً كتاب القصة التقليدية وتتضح كل طريقة من خلال الحديث التالي:

1- الطريقة التقليدية:
وهي أقدم طريقة، وتمتاز باتباعها التطور السببي المنطقي، حيث يتدرج القاص بحدثه من المقدمة إلى العقدة فالنهاية.

2- الطريقة الحديثة:
يشرع القاص فيها بعرض حدث قصته من لحظة التأزم، أو كما يسميها بعضهم"العقدة"، ثم يعود إلى الماضي أو إلى الخلف ليروي بداية حدث قصته. مستعيناً في ذلك ببعض الفنيات والأساليب كتيار اللاشعور والمناجاة والذكريات.([8])

3- طريقة الارتجاع الفني (الخطف خلفاً)

يبدأ الكاتب فيها بعرض الحدث في نهايته ثم يرجع إلى الماضي ليسرد القصة كاملة، وقد استعملت هذه الطريقة قبل أن تنتقل إلى الأدب القصصي في مجالات تعبيرية أخرى كالسينما. وهي اليوم موجودة في الرواية"البوليسية" أكثر من غيرها من الأجناس الأدبية.([9])

ب- طرق صوغ الحدث:
هناك طرق عديدة يستخدمها كتاب القصة لعرض الأحداث نكتفي بالحديث عن أهمها وهي:

1- طريقة الترجمة الذاتية:
يلجأ القاص فيه إلى سرد الأحداث بلسان شخصية، من شخصيات قصته، مستخدماً ضمير المتكلم، ويقدم الشخصيات من خلال وجهة نظره الخاصة، فيحللها تحليلاً نفسياً، متقمصاً شخصية البطل. ولهذه الطريقة عدة عيوب، من بينها أن الأحداث ترد على لسان القاص الذي يتحكم أيضاً في مسار نمو الشخصيات، ومنها أنها تجعل القراء يعتقدون أن الأحداث المروية، قد وقعت للقاص، وأنها تمثل تجارب حياته حقاً، خصوصاً إذا وفق في إقناع القراء بذلك عن طريق وسائله الفنية.

2- طريقة السَّرد المباشر:
تبدو هذه الطريقة أرحب وأنجع من الطريقة السابقة، وفيها يقدم الكاتب الأحداث في صيغة ضمير الغائب، وتتيح هذه الطريقة الحرية للكاتب، لكي يحلل شخصياته، وأفعالها تحليلاً دقيقاً وعميقاً، ثم إنها لا توهم القارئ بأن أحداثها عبارة عن تجارب ذاتية وحياتية، وإنما هي من صميم الإنشاء الفني.

3- الطريقة الثالثة:
يعتمد القاص في هذه الطريقة على الوثائق والرسائل والمذكرات في أثناء معالجته الموضوع الذي يدير قصته حوله.([10])

- عناصر الحدث:
يوجد للحدث القصصي عنصران أساسيان، هما المعنى والحبكة وسنعرض لهما بإيجاز:

أ- المعنى:
للمعنى في القصة القصيرة، أهمية كبرى. فهو عنصر أساسي، بل يعده بعض الدارسين أساس القصة، وجزءاً لا ينفصل عن الحدث، ولذلك فإن الفعل والفاعل، أو الحوادث والشخصيات يجب أن تعمل على خدمة المعنى من أول القصة إلى آخرها، فإن لم تفعل ذلك، كان المعنى دخيلاً على الحدث، وكانت القصة بالتالي مختلفة البناء.([11]) فالقصة الفنية تكتمل بالمعنى الجيد الذي يخدم الإنسان ويطوره. وما كل معنى يلقى الترحيب عند المتلقين أو النقاد. وبلا ريب فإن المعنى الجيد يشارك في انتشار النص القصصي، ومن ثمة فإن دوره يكون أعمق أثراً وأكثر عملاً على تغيير الظواهر المدانة من طرف النص الأدبي.


ب- الحبكة:

نعني بالحبكة تسلسل حوادث القصة الذي يؤدي إلى نتيجة، ويتم ذلك إما عن طريق الصراع الوجداني بين الشخصيات، وإمّا بتأثير الأحداث الخارجية.([12])

ومن وظائف الحبكة إثارة الدهشة في نفس القارئ في حين أن الحكاية لا تعدو أن تكون إثارة لحب الاستطلاع لديه، وبين حب الاستطلاع وإثارة الغرابة أو الدهشة فرق كبير، من حيث التأثير الفني.

والحبكة هي المجرى العام الذي تجري فيه القصة وتتسلسل بأحداثها على هيئة متنامية، متسارعة، ويتم هذا بتضافر كل عناصر القصة جميعاً.

فالأحداث يجب أن تكون مرتبطة بمبدأ السببية بالرغم من أن بعض القاصين يعتمدون على عناصر أخرى في رسم الأحداث المفاجئة، كاستلهام تدخلات عامل الصدفة، وهذه وسائل يمجها الذوق الفني الرفيع، ويلجأ إليها القاصون السطحيون ذوو الضعف الفني.([13])
والحبكة نوعان:
1- يعتمد فيها تسلسل الأحداث.
2- يعتمد فيها على الشخصيات. وما ينشأ عنها من أفعال، وما يدور في صدورها من عواطف، ولا يجيء الحدث هنا لذاته، بل لتفسير الشخصيات التي تسيطر على الأحداث، حسب رغبتها، وطاقتها.([14])
هذا فيما يخص الحدث وعنصريه الأساسيين، وفيما يلي حديث عن الخبر وعناصره في العمل القصصي.
2- الخبر القصصي(الموضوع)

الخبر في الأصل اللغوي يعني نقل معنى([15])، ولهذا النقل وسائل عديدة، أخذت في التطور منذ طفولة الإنسان الأولى إلى أن بلغت الآن آفاقاً واسعة بفضل وسائل الإعلام العصرية.

وليست كل الأخبار التي نسمعها، أو نقرأها يومياً أخباراً فنية إذ للخبر الفني القصصي شروط أولها أن يحدث أثراً كلياً، ولا يتحقق هذا الأثر إلا إذا صور حدثاً متنامياً من خلال المقدمة، والعقدة والخاتمة.([16]) وبهذا يتميز الخبر الفني، عن الخبر الذي يصلنا عن طريق وسائل الإعلام المسموعة أو المرئية أو المقروءة.
وأورد فيما يلي نموذجاً إخبارياً يحقق أثراً كلياً، ولكنه يفتقر إلى الصفة الفنية لأنه لا يحقق الحدث القصصي الذي يعد ركيزة أساسية في القصة، بحيث لا يمكن الاستغناء عنها((من المحقق أن سيدة تسمى مادونا بياتريس عاشت فعلاً في فلورنس في عصر دانتي، وكانت تنتمي إلى أسرة فلورنسية تدعى أسرة بوتيناري، وقد عرف عن هذه السيدة الجمال وحسن الخلق، وأعجب بها دانتي وأحبها، ونظم الأغاني في مدحها. وبعد موتها أراد أن يعلي اسمها، ومن ثمة ظهرت عدة [كذا] مرات في قصيدته الكبيرة الكوميديا الإلهية.)([17])
وعلى هذا فإن للخبر القصصي شروطاً منها:
1- أن يكون ذا أثر وانطباع كلي.
2- أن تتصل تفاصيله، وأجزاؤه وتتماسك تماسكاً عضوياً، فنياً لتوافر الوحدة الفنية في العمل القصصي.
3- أن يكون ذا بداية، ووسط أو عقدة، ونهاية أو لحظة تنوير.([18])
فإذا كانت. كل كتابة، تنقل خبراً فليس شرطاً، أن كل كتابة فنية. فللكتابة الفنية شروط ينبغي توفرها، وإلا كان الخبر عادياً، وخاصة حين لا يتوفر على عنصري الأثر الكلي، أو الحدث القصصي، وهما الشرطان المهمان في أية قصة فنية، ومن دونهما تظل القصة مبتورة، وعلى القاص أن ينتبه لهذين العنصرين، وأن يعي جيداً الحدود الفاصلة بين الفن واللافن. هذا ما كان من شأن الخبر ودوره في القصة القصيرة الفنية، ونعرض فيما يلي لعناصر الخبر الأساسية.
أ- المقدمة(البداية)

يتفق نقاد القصة القصيرة في معظمهم على أهمية مقدمتها، وقد شدّد: يوسف الشاروني على أهمية التشويق والإثارة في مطالع القصة الفنية.([19]) ذلك أن براعة الاستهلال تشد القارئ إلى متابعة الأحداث التالية، وليس كل كاتب بقادر على شد القارئ، وتشويقه لمتابعة القراءة، وإنما يوفق إلى هذا الموهوبون من الكتاب أوذوو الخبرة الطويلة في الكتابة القصصية.

وقد يقوم عنوان القصة بدور المقدمة، فيكون مثيراً للانتباه، وبذلك يستحث القارئ على المتابعة، فعلى القاص أن يعتني عناية فائقة، في اختيار عناوين قصصه، وإن أي خلل في العنوان ينعكس أثره في القصة، ويعد النقاد ذلك عيباً يشوه النص القصصي.
وعلى القاص في المقدمة أن يعرف بشخوصه وبعض ملامحهم وصفاتهم، وذلك بطريقة فنية تثير اهتمام مشاعر القارئ وتدفعه إلى متابعة قراءة النص([20])، ولا تعدو المعلومات التي يقدمها القاص في مقدمة قصته أن تكون مجرد أضواء خافتة تنير الطريق إلى"مجهول" يكتشفه القارئ كلما تقدم في القراءة، وما يزال كذلك يتلذذ بهذا الاكتشاف حتى النهاية.

إن في تشديد النقاد على المقدمة القصصية كل الصواب، ولا ينبغي للمقدمة أن تطول، فحجم العمل الأدبي لا يحتمل المقدمات الطوال، ولا كثرة التفاصيل لأنه متى اكتشف القارئ بقية الحوادث، عدّ الوقت الذي يقضيه في إتمام قراءة النص القصصي ضائعاً.
بينت فيما سبق أهمية المقدمة في القصة القصيرة، وبعض صفاتها الفنية، ودورها في نجاح العمل أو إخفاقه، وسأتحدث فيما يلي عن عنصر عقدة القصة التي تعد أحد أركان الخبر الفني الهامة.
ب- العقدة (لحظة التأزم):

عرف الدكتور عبد الله خليفة ركيبي(العقدة) بأنها"تشابك الحدث وتتابعه حتى يبلغ الذروة"([21])، أما يوسف الشاروني فقال إنها((تتابع زمني، يربط بينه معنى السببية))([22])، ثم ذكر أن عقدة القصة الجيدة، يجب أن تجيب عن هذين السؤالين: "وماذا بعد، ولماذا؟"([23])، إن الفرق بين الحكاية القصصية البسيطة، وبين القصة القصيرة، أن الأولى تكتفي بالإجابة عن السؤال، وماذا بعد؟ في حين أن عقدة القصة القصيرة تجيب على السؤالين معاً وماذا بعد؟ ولماذا؟ ويشترط في العقدة أن تتضمن صراعاً قدرياً، أو ناتجاً عن ظروف اجتماعية أو صراعاً يقوم بين الشخصيات الموظفة، أو صراعاً نفسياً يدور في داخل الشخصيات.

وقد ذهب بعض الدارسين إلى أن العقدة لم تعد من عناصر القصة الهامة وربما في هذا غلو، فمع تطور فن القصة فإن عنصر العقدة لا يزال أداة قوية لتشكيل لحظة تأزم داخل النص، يتابعها القارئ بشوق من أجل حل الإبهام الذي يحيط بها محققاً بذلك لذة جمالية. ونرى أن في الأعمال القصصية الخالية من العقدة نقصاً كبيراً، يخل بالعمل الأدبي ككيان متكامل.
ج- النهاية(لحظة التنوير أو الانفراج):

بعد أن تتشابك الأحداث القصصية، وتبلغ ذروة التعقيد تتجه نحو انفراج يتضح من خلاله مصير الشخصيات، وقد اعتاد الدارسون أن يطلقوا على هذه المرحلة اسم النهاية، أو لحظة الانفراج.

وهم يعلون شأن النهاية، لكونها جزءاً أساسياً من صلب القصة القصيرة فهي مرتبطة ارتباطاً عضوياً ببدايتها حتى لا يتفكك نسيج القصة ولا بناؤها، لأن تطور الحدث ضروري في دفع مجراها إلى هذه النهاية التي تحدد معنى الحدث، وتكشف عن دوافعه وحوافزه([24]). ولأنها تكون مجمعاً للحدث القصصي يتحدد من خلاله المعنى الذي أراد الكاتب أن يعبّر عنه.([25])

وليست النهاية عملية ختم لأحداث القصة فحسب بل إن فيها التنوير النهائي للعمل القصصي الواحد المتماسك، ومن خلالها يقع الكشف النهائي عن أدوار الشخصيات([26])، ويطلب إلى الكاتب الابتعاد عن النهايات المفاجئة، أو النهايات المقحمة غير المقنعة، أو التي تشبه جسماً غريباً ألصق بالعمل القصصي لأن الإقناع يعد من العناصر الأساسية في أي عمل فني.

والنهاية الجيدة، هي التي تستوعب كل العناصر المتقدمة، من بداية وحدث، وشخصيات، إنها كالبحيرة التي تتجمع فيها مياه الوديان والجداول والشعاب.
3- النسيج القصصي:

نسيج القصة هو الأداة اللغوية، التي تشمل السرد والوصف والحوار. ووظيفته خدمة الحدث، إذ يسهم في تطويره ونموه إلى أن يصير كالكائن الحيّ المميز، بخصوصيات محددة، وعلى القاص أن يترك الفرصة لشخصيات أعماله القصصية أن تتحدث بلغتها، ومستواها الفكري حتى يمكنها أن تكتسب طبيعة منطقية.([27])

ونظراً لاختلاف مستويات شخصيات العمل القصصي، فإنه من العبث أن نرى الشخصيات جميعها تتحدث بمستوى واحد، إذ أن المنطق يحتم اختلاف هذا المستوى بحسب تفاوت الشخصيات الموظفة.
وتهدف القصة القصيرة من خلال نسيجها إلى تصوير حدث قصصي، متكامل، وفق عناصر الخبر الثلاثة: البداية والعقدة والنهاية، ولا يجوز للدارسين أن يفصلوا بين نسيج القصة وبنائها، لأنهما تسميتان لشيء واحد، ولأن القصة القصيرة لحمة فنية لا يمكن تجزئتها إلى نسيج وبناء.([28])
وفيما يأتي عرض موضوعي لبعض عناصر نسيج القصة، وسنتناول الموضوع من حيث السرد والوصف والحوار.
أ- السرد:يعد السرد أحد أركان النسيج القصصي الأساسية، حيث يسهم في الربط بين أجزاء القصة وتتابعها، تتابعاً فنياً متيناً.
ويدل المعنى اللغوي لكلمة"سرد"، ((على توالي أشياء كثيرة يتصل بعضها ببعض، من ذلك السرد: اسم جامع للدروع وما أشبهها من عمل الحلق))([29]) .

أما اصطلاحاً فالكلمة تعني: التتابع وإجادة السياق([30])، وأما من حيث الاصطلاح الأدبي فإنها تعني((المصطلح الذي يشتمل على قص حدث أو أحداث أو خبر أو أخبار سواء أكان ذلك من صميم الحقيقة أم من ابتكار الخيال.))([31]).
وليس السرد عنصراً فنياً خاصاً بالقصة القصيرة من دون غيرها، وإنما هو ركن أساسي في الرواية، حيث يتحقق بوساطته ترابط الأحداث وتسلسلها.
ب- الوصف:

الوصف في المصطلح الأدبي هو: تصوير العالم الخارجي أو العالم الداخلي من خلال الألفاظ، والعبارات، وتقوم فيه التشابيه والاستعارات مقام الألوان لدى الرسام والنغم لدى الموسيقي([32]).

ووظيفة الوصف هي خلق البيئة التي تجري أحداث القصة فيها وتكوين نسيجها، ولا يحق للقاص أن يتخذ من الوصف مادة للزينة وإنما يوظفه في تأدية دور ما في بناء الحدث. ومن المتفق عليه أن على الكاتب أن يقدّم الأشياء الموصوفة، ليس كما يراها هو، بل كما تراها شخصياته.
وأن تكون اللغة قريبة من لغة الشخصية، لكي تحقق شيئاً من المنطقية الفنية، لأن الشخصية هي التي ترى الشيء وتصفه وتتأثر به([33])
فإذا توافرت هذه الشروط، فإن الوصف سيكون عنصراً فنياً مع بقية العناصر في تماسك النص القصصي.
ج- الحوار:

الحوار في المصطلح هو تبادل الحديث بين الشخصيات في قصّة ما([34]). ومن وظائفه في العمل الأدبي بعث روح حيوية في الشخصية، ومن شروطه أن يكون مناسباً، وموافقاً للشخصية التي يصدر عنها، إذ لا يعقل أن يورد الكاتب حواراً فلسفياً، عميقاً على لسان شخصية أمية، غير مثقفة([35]).

ويقوم الحوار في القصة بدور هام، حيث بإمكانه أن يخفف من رتابة السرد الطويل، والذي قد يكون مبعثاً للسأم والملل، وبتدخل الحوار الخفيف السريع يقترب النص من لغة الواقع أكثر.([36])
إن اللغة أداة الحوار، ولذلك وجب أن تكون عامل بناء في الفن القصصي وعامل تعبير عن الأفكار والآراء.([37])

ومن الشروط الفنية للحوار القصصي أيضاً التركيز والإيجاز والسرعة في التعبير عما في ذهن الشخصية، من أفكار حيوية، أما طول الحوار فإنه يضر بالبناء الفني للقصة القصيرة.([38])

وقد أجمعت جل آراء النقاد والدارسين على ضرورة استعمال اللغة العربية الفصحى في الحوار، لأنها اللغة الوحيدة التي يفهمها المثقفون العرب كافة رغم أن قلة منهم يدعون إلى استعمال العامية بدعوى تقريب الشخصية من واقعها الحياتي، إذ ليس من المنطقي-في رأيهم- أن ندير حواراً باللغة الفصحى على لسان فلاح ينتمي إلى الريف السوداني أو الجزائري مثلاً. ولكن هذا مردود في رأينا أضف إلى ذلك أن اللهجات المحلية العربية تقلل من جماهيرية النص الأدبي وتجعله منحصراً في بيئة واحدة من الصعوبة اجتيازها لشدة خصوصيات بعض اللهجات العربية.
4- الشخصية:

الشخصية القصصية هي أحد الأفراد الخياليين، أو الواقعيين الذين تدور حولهم أحداث القصة([39])، ولا يجوز الفصل بينها وبين الحدث، لأن الشخصية هي التي تقوم بهذه الأحداث([40]).

وقد أكد كثيرون على هذه الصلة، يقول الدكتور رشاد رشدي: ((من الخطأ الفصل أو التفرقة بين الشخصية، وبين الحدث، لأن الحدث هو الشخصية، وهي تعمل، أو هو الفاعل وهو يفعل))([41]).
وينتقي القاص-في معظم الأحيان- من الشخصيات التي يوظفها للتعبير عن أفكاره وآرائه شخصية محورية تتجه نحوها أنظار بقية الشخصيات، كما أنها تقود مجرى القصة العام.
وقد ألف النقاد أن يطلقوا على هذه الشخصية مصطلح"البطل" ويعنون به الشخصية الفنية التي يسند القاص إليها الدور الرئيسي في عمله القصصي.
ويعني أحمد منور بشخصية البطل، الشخصية الفنية التي((تستحوذ على اهتمام القاص، وتمثل المكانة الرئيسية في القصة، وقد تكون سلبية، كما تكون إيجابية، أو متذبذبة بين هذه القصة وتلك، قد تكون محبوبة، أو منبوذة من طرف القارئ، المهم أنها تمثل المحور الرئيسي في القصة والقطب الذي يجذب إليه كل العناصر الأخرى ويؤثر فيها))([42]).

شرعت بعض الدراسات الحديثة تبتعد عن تسمية(البطل) ورأت فيها بطولةٌ طوباويةٌ زائفة، لأنها مقترنة بظهور الأدب الخيالي الذي نشأ في العصور الوسطى، ولهذا استبدلنا بها اسم(الشخصية الرئيسية)، لأنها في رأي أصحاب هذه الدراسات أنسب، كما أنها تتلاءم مع الدور الفني الذي يسند إليها.

ويحبذ في الشخصية القصصية أن تكون معبرة عن صورة من صور الحياة البشرية وأن تبتعد قدر المستطاع عن النماذج الأسطورية التي تقوم بأعمال خارقة، لأن عنصر الإقناع يضفي على الشخصية القصصية هيبة، ودوراً متقدماً. وفي هذا الشأن يقول الطاهر وطار: ((أبطالي الرئيسيون أختارهم من الحياة، من معارفي أو أصدقائي، أو من حققت في شأنهم في إطار عملي- كمراقب وطني للحزب- ولكن مهما كانت قيمة البطل الدرامية، فإنني مضطر إلى أن أضفي على الأقل 70 أو 80%، من أبعاد ومعطيات من عندي، وأحياناً أقوم بتركيب عدة شخوص في شخص واحد.([43])وسنعرض فيما يلي لأنواع الشخصيات، كما سنبيّن طرائق عرضها.
أ- أنواع الشخصيات الفنية:

ففي القصة عدة أنواع من الشخصيات، تختلف أدوارها بحسب ما أراده القاصّ لها، وأهم هذه الشخصيات هي:

1- الشخصية الرئيسية:

هي الشخصية الفنية التي يصطفيها القاصّ لتمثل ما أراد تصويره أو ما أراد التعبير عنه من أفكار أو أحاسيس. وتتمتع الشخصية الفنية المحكم بناؤها باستقلالية في الرأي، وحرية في الحركة داخل مجال النص القصصي.

وتكون هذه الشخصية قوية ذات فاعلية كلما منحها القاص حرية، وجعلها تتحرك وتنمو وفق قدراتها وإرادتها، بينما يختفي هو بعيداً يراقب صراعها، وانتصارها أو إخفاقها وسط المحيط الاجتماعي أو السياسي الذي رمى بها فيه.
وأبرز وظيفة تقوم بها هذه الشخصية هي تجسيد معنى الحدث القصصي، لذلك فهي صعبة البناء، وطريقها محفوف بالمخاطر.
2- الشخصية المساعدة
على الشخصية المساعدة أن تشارك في نمو الحدث القصصي، وبلورة معناه والإسهام في تصوير الحدث. ويلاحظ أن وظيفتها أقل قيمة من وظيفة الشخصية الرئيسية، رغم أنها تقوم بأدوار مصيرية أحياناً في حياة الشخصية الرئيسية.

3- الشخصية المعارضة
وهي شخصية تمثل القوى المعارضة في النص القصصي، وتقف في طريق الشخصية الرئيسة أو الشخصية المساعدة، وتحاول قدر جهدها عرقلة مساعيها. وتعد أيضاً شخصية قوية، ذات فعالية في القصة، وفي بنية حدثها، الذي يعظم شأنه كلما اشتد الصراع فيه بين الشخصية الرئيسية، والقوى المعارضة، وتظهر هنا قدرة الكاتب الفنية في الوصف وتصوير المشاهد التي تمثل هذا الصراع. 

ويمكن التمييز بين فئتين من الشخصيات في الأدب القصصي نوردهما فيما يلي([44]).أ- الشخصيات البسيطة:
وهي الشخصيات الثابتة التي تبقى على حالها من بداية القصة إلى نهايتها فلا تتطور، حيث((تولد مكتملة على الورق لا تغير الأحداث طبائعها، أو ملامحها، ولا تزيد ولا تنقص من مكوناتها الشخصية، وهي تقام عادة حول فكرة، أو صفة كالجشع وحب المال التي تبلغ حد البخل أو الأنانية المفرطة))([45]).

ب- الشخصية النامية
وهي الشخصية التي تتطور من موقف إلى موقف- بحسب تطور الأحداث، ولا يكتمل تكوينها حتى تكتمل القصة([46])، بحيث تتكشف ملامحها شيئاً، فشيئاً خلال الرواية أو السرد، أو الوصف، وتتطور تدريجياً خلال تطور القصة وتأثير الأحداث فيها أو الظروف الاجتماعية([47]).

2- طرق عرض الشخصيات
توجد طريقتان أساسيتان لعرض شخصيات القصة هما:

أ- الطريقة التحليليةوهي طريقة مباشرة، يعنى في رسمها من الخارج، حيث يذكر القاص تصرفاتها، ويشرح عواطفها وأحاسيسها بأسلوب صريح تتكشف فيه شخصيته وتوجيهه لشخصياته وأفكارها وفق حاجته والهدف الذي رسمه كما ترد ملامحها الخارجية على لسانه.
ب- الطريقة التمثيلية
وهي طريقة غير مباشرة يمنح القاص فيها للشخصية حرية أكثر للتعبير عن نفسها وعن كل ما يختلج بداخلها من أفكار وعواطف وميول. مستخدماً ضمير المتكلم، كما أن شخصيّة القاص تنتحي جانباً لتفسح المجال للشخصية الأدبية لتقوم بوظيفتها الفنية بعيداً عن أية تأثيرات خارجية.

إلا أنه أحياناً قد يوظف القاص الطريقتين معاً في قصة واحدة لتصوير الشخصية كلما اقتضت الضرورة الفنية ذلك كما هو الحال في الترجمة الذاتية حيث يفسح الكاتب المجال للشخصية نفسها.([48])

إن بناء الشخصية ليُعد من الأمور الصعبة، بحيث تستلزم جهداً فنياً كبيراً، وخبرة عميقة بأساليب الفن القصصي، لعدة أسباب كقصر شكلها، ومحدودية زمنها وبيئتها([49]). 

ولكي تكون الشخصية القصصية عنصراً مقنعاً في القصة، يجب أن تكون متطورة وذات أبعاد تحددها، كالحوافز والدوافع التي تدفعها للقيام بعمل ما، وتتحدد الشخصية أيضاً بملامحها وتصرفاتها والتي تزيدها عمقاً ومتانة، كما يجب أن تكون شديدة الارتباط بالحدث مؤثرة فيه، ومتأثرة به([50]).
وللشخصية الفنية ثلاثة شروط:
1- أن تكون مقنعة معبرة عن نفسها، أي بعيدة عن التناقض.
2- أن تكون حيوية فعالة ومتفاعلة مع الأحداث، متطورة بتطورها من أول القصة إلى آخرها.
3- أن يتوفر فيها عنصر الصراع، ويقصد به الاحتكاك بينها وبين نفسها، وعواطفها الذاتية أو عقيدتها، أو عقلها، أو بينها وبين شخصيات أخرى، وكلما كان الصراع قوياً واضحاً بين هذه العناصر كانت القصة أنجح وأعمق تأثيراً([51]).

كما اقترح بعض الدارسين([52]) ثلاثة أبعاد يجب على القاص أن يلم بها للإحاطة برسم الشخصية وهذه الأبعاد هي:1- البعد الجسمي:
يهتم القاص في هذا البعد برسم شخصيته، من حيث طولها، وقصرها ونحافتها وبدانتها، ولون بشرتها، والملامح الأخرى المميزة.

2- البعد الاجتماعي:
يهتم بتصوير الشخصية، من حيث مركزها الاجتماعي، وثقافتها، وميولها والوسط الذي تتحرك فيه.

3- البعد النفسي:يهتم القاص خلال هذا البعد، بتصوير الشخصية من حيث مشاعرها وعواطفها وطبائعها، وسلوكها، ومواقفها من القضايا المحيطة بها.
إن عنصر الشخصية القصصية من أهم العناصر في القصة، ولذا وجب على القاص أن يعتني به عناية شديدة.5- الأسلوب:
قد يصعب التحديد اللغوي والأدبي لكلمة(الأسلوب)، ويرجع ذلك لتعدد تعاريفه نظراً لاختلاف البيئات الثقافية، وخبرات الكتاب والنقاد وآرائهم في الإبداع وأساليبه.

على أن هناك ملامح عامة مشتركة تساعدنا في مجال بحثنا، وسنورد بعضها فيما يلي:
من هذه التعاريف اللغوية ما أوردته المعجمات العربية القديمة والحديثة فقد أورد إسماعيل بن حماد الجوهري لفظ الأسلوب بمعنى الأخذ من فنون القول([53])، وجاء في لسان العرب المحيط حول كلمة(الأسلوب) ما يلي: ((ويقال للسطر من النخيل: أسلوب. وكل طريق ممتد، فهو أسلوب قال: والأسلوب الطريق، والوجه، والمذهب: يقال: أنتم في أسلوب سوء، ويجمع أساليب، والأسلوب تأخذ فيه والأسلوب بالضم: الفن، يقال: أخذ فلان في أساليب من القول، أي أفانين منه، وإن أنفه لفي أسلوب، إذا كان متكبراً، والأسلوب لعبة للأعراب، أو فعلة يفعلونها بينهم.))([54])، كما وردت في القاموس المحيط بمعنى الطريق.([55])

أما من حيث دلالة مصطلح كلمة(الأسلوب) الأدبية، فقد أوردها بعض المؤلفين المعاصرين في معان متشابهة، ومن بينها ما أورده جبور عبد النور في((المعجم الأدبي)) من أنه"طريقة يستعملها الكاتب في التعبير عن موقفه، والإبانة عن شخصيته الأدبية، تميزه عن سواها، لا سيما في اختيار المفردات، وصياغة العبارات والتشابيه والإيقاع. ويرتكز على أساسين: أحدهما كثافة الأفكار الموضحة وضبطها، وعمقها أو طرافتها، والثاني نخل المفردات،
وانتقاء التركيب الموافق لتأدية هذه الخواطر، بحيث تأتي الصياغة محصلاً لتراكم ثقافة الأديب ومعاناته))([56]).
ويعني الأسلوب عند الروسي خرابيشينكو: ((ذلك التميز في كاتب أو مجموعة من الكتاب.))([57])، ويضم الأٍسلوب الفني الاستيعاب العام للواقع الذي يتميز به الكاتب، وكذلك الطريقة الفنية التي يضعها الكاتب أمامه.([58])

ويستوحي الكاتب أسلوبه من مصادر متنوعة، أهمها بيئته، وثقافته وملاحظاته، وأحاسيسه وتجاربه ومواهبه([59]). ويذهب الأستاذ: أحمد الشايب إلى أنه يمكن تحليل(الأسلوب) إلى ثلاثة عناصر هي: الأفكار والصور والعبارات.([60]) وقد أضافت الدكتورة عزيزة مريدن عناصر أخرى منها: التوافق والانسجام بين المعاني 

والألفاظ.([61]) تختلف الأساليب إذن من أديب لآخر، ومن كاتب لآخر، ولشدة بصمات الكاتب في أسلوبه يتمكن القراء من معرفة معظم الكتاب، كما يختلف الأسلوب الأدبي من لغة لأخرى، وذلك حسب خصائص الجملة لكل لغة وتختلف الأساليب باختلاف الموضوعات، فكل موضوع يلزمه أسلوب، وباختلاف الشخصية المبدعة، من حيث الأذواق والمواهب العقلية والخبرات، ودرجة الانفعال وطريقة العمل([62]).
وللقصة القصيرة أسلوب يتميز ببعض الملامح الفنية، إذ أن الأسلوب المتبع في بنائها، هو الأسلوب المبني على خطة تعرف بالسياق أو الحبكة، وهذه الخطة تبدأ عادة بمقدمة تنتقل منها إلى الحادثة، حيث تبلغ ذروتها، ثم تصل إلى الحل، وهو النهاية الخاتمة.([63])

وتوجد أساليب أخرى إلى جانب هذا الأسلوب المميز لفن القصة القصيرة، يتبعها القاصون في سرد أحداث قصصهم، أشهرها: السرد، والترجمة الذاتية، والرسائل والوثائق، وتيار الوعي، ووجهات نظر الشخصيات.([64])
وأخيراً فإن الأسلوب يعد روح العمل الأدبي، ولذلك ينبغي على الأدباء أن يهتموا بتحسين أساليبهم الفنية، وأن يسعوا دوماً نحو الأسلوب الجيد الرصين.
6- التركيز:
يلح الدكتور عبد الله خليفة ركيبي على ضرورة التركيز، والإيجاز في التعبير القصصي وإلغاء الزوائد التي تضر بالعمل الأدبي، إذ الكلمة في القصة القصيرة لا يقل دورها، وأهميتها عن وجودها في القصيدة الشعرية.


فللتركيز مهمة كبيرة في القصة القصيرة، بحكم حجمها ومسوغاتها الفنية التي لا تحتاج إلى أطناب، وتفاصيل([65])، وقد فرق بين التفصيلات الضرورية التي يلح عليها العمل الفني ذاته، وبين التفصيلات الزائدة، التي يقصد بها تضخيم حجم القصة لا غير، وهي تفصيلات، ليست من فنيات القصة وإنما يمكن الاستغناء عنها وحذفها لأن وجودها في الوصف أو في الحوار، يضر أكثر مما ينفع.([66])

أما موطن التركيز في القصة، فيكون في الموضوع، وفي الحادثة، وطريقة سردها، أو في الموقف وطريقة تصويره، أو في لغتها، ويبلغ التركيز حده حين لا يمكن الاستغناء عن أي لفظة مستخدمة، أو يمكن أن يستبدل بها غيرها، إن كل لفظة في القصة القصيرة يجب أن تكون موحية ولها دورها، تماماً، كما هو الحال في الشعر.([67])

وسبب إلحاح النقاد على عنصر التركيز، والإيجاز يرجع إلى أن طبيعة القصة القصيرة بحجمها وزمانها ومكانها لا تتطلب التفصيل والسعي وراء تكديس الحوادث مثلما يسمح بذلك فن الرواية.


فنّ القصة القصيرة وإشكالية البناء

بفلم: أ.د. خليل أبو ذياب
***


يعدّ فن القصة القصيرة من أحدث الفنون الأدبية الإبداعية حيث لا يجاوز ميلادها قرنا ونصف قرن من الزمان، حتى ان الدارسين والنقاد يعتبرونه مولود هذا القرن(1)؛ بل أن مصطلح "القصة القصيرة" لم يتحدد كمفهوم أدبى إلا عام 1933 فى قاموس أكسفورد. وقد كان من أبرز المبدعين لهذا الفن الحادث "ادجار ألان بو الأمريكى" و "جودى موباسان الفرنسى" و "جوجول الروسى" الذى يعدّه النقاد أبا القصة الحديثة بكل تقنياتها ومظاهرها وفيه يقول مكسيم جوركى: "لقد خرجنا من تحت معطف جوجول"(2).
ومن هنا فالقصة القصيرة بتقنياتها الحديثة وأسسها الجمالية وخصائصها الإبداعية المميزة وسماتها الفنية لم يكن لها فى مطلع القرن العشرين شأن يذكر على الإطلاق(3).

وقد كان وراء انتشار هذا الفن الجديد وشيوعه عالميا وعربيا طائفة من الدوافع والعوامل من أبرزها " انتشار التعليم وانتشار الديموقراطية وتحرير عبيد الأرض من سلطان الإقطاع وثورة الطبقة الوسطى وطبقة الـعمال والفلاحين، كذلك بروز دور المرأة فى المجتمع واسهامها فى مجالات الحياة والميادين الاجتماعية والسياسية والفكرية والفنية، وما شهد العصر من تـطور علمى وفكرى وحضارى وصناعى كما لعبت الصحافة دورا مهما فى رواج هذا الفن ونشره، كما لا يخفى دور المطبعة وانتشار الطباعة فى ازدهارها..ونتيجة لكل ذلك "أصبحت القصة القصيرة من مـستلزمات العصر الحديث لا يضيق بها، بل يتطلب رواجها بانتشارها وكثرة المشتغلين بتأليفها لأنها تناسب قلقه وحياته المتعجلة وتعبر عن آلامه وآماله وتجاربه ولحظاته وتأملاته"(4).
وهكذا بدأ فن القصة القصيرة فى الظهور والانتشار
 فى الأقطار العربية على ما بينها من تفاوت ما بين خمسينات هذا القرن وستيناته نتيجة لمجموعة من العوامل الحضارية التى شهدتها المنطقة بعد التغير الجتماعى الواسع فى أنماط الوجود بها وتبدّل طبيعة الحياة الاجتماعية فيها عقب اكتشاف النفط خاصة وبعد دخول المطبعة وظهور الصحيفة وتغير طبيعة النظام التعليمى وظهور جمهور جديد من القراء ذى احتياجات ثقافية جديدة، وغير ذلك من العوامل التى ساهمت فى ميلاد القصة القصيرة فى المشرق العربى"(5) مما أشرنا إليه آنفا.
وقد كان للنقد موقف خاص متميز من القصة القصيرة ربما كان وراء تأخر انتشارها وشيوعها فى الحياة الأدبية، وهذا الموقف صنعه موقف الناس من القصة والقاصّ على حد سواء، حيث كانوا يعدون القصة عامة، والقصة القصيرة خاصة شيئا
 يتلهى به الإنسان فى أوقات الفراغ كما كانوا يعدونّ كاتب القصة متطفلاً على موائد الأدب لا يستحق اكثر من الإهـمال والاحتقار"(6) مما جعل كتّابها ينشرونها فى الصحف والمجلات تحت عنوان "فكاهات"، كما دفع هذا الموقف بعض القصّاص إلى عدم ذكر أسـمائهم على رواياتهم التى يبدعونها على نحو ما صنع "محمد حسين هيكل" فى رواية "زينب" عندما مهرها بـ "فلاح مصرى". وطبيعى أن يكون لمثل هذا الموقف منالقصة والقصة القصيرة خاصة أثر بالغ فى انحسار تيارها وتأخر انتشارها فى الحياة الأدبية العربية لتحل المترجمات التى أخذت تشيع آنذاك محل المبدعات، حيث "كان أكثر ما يقدم لجمهور القراء منذ أواخر القرن الماضى حتى أواخر الثلث الأول من القرن الحاضر هو من قبيل الترجمة والاقتباس، حتى جمع أمين دار الكتب فى بيروت لها معجما أثبت فيه نحو عشرة آلاف قصة مترجمة من مختلف اللغات(7)؛ وهذا يؤكد أن ظهور الـقصة القصيرة وفن القصص عامة والمسرحيات أنما كان عن طريق معرفة الآداب الغربية فى أعقاب الاحتكاك الثقافى والفكرى والأدبى الذى حققته النهضة الحديثة التى اجتاحت العالم العربى فى هذا العصر الحديث.
وعلى الرغم من قصر عمر القصة القصيرة/ هذا اللون الأدبى المبدع فإن شهرتها وشدة اعتناء الأدباء والنقاد بها وحرصهم على إبداعها جعلها بصورة من الصور تزاحم وتنافس الشعر الذى يعدّ أهمّ الأنماط الأدبية الإبداعية على طول تاريخها الفسيح لتحقّق لها شعبية واسعة.
وتكمن أهمية القصة القصيرة فى أنها شكل أدبى فنى قادر على طرح أعقد الرؤى وأخصب القضايا والقراءات(ذاتية وغيرية ونفسية واجتماعية، وبصورة دقيقة واعية من خلال علاقة الحدث بالواقع وما ينجم عنه من صراع وما تمتاز به من تركيز وتكثيف فى استخدام الدلالات اللغوية المناسبة لطبيعة الحدث وأحوال الشخصية وخصائص القص وحركية الحوار والسرد ومظاهر الخيال والحقيقة وغير ذلك من القضايا التى تتوغل هذا الفن الأدبى المتميز.
ومما يلفت النظر فى ما تطالعنا به المطابع مما يطلق
 عليه مصطلح/ أسم القصة القصيرة أنه ليس من القصة القصيرة فى شئ فيما وراء محدودية الكلمات والصفحات؛ وكأن هذا المظهر هو أهم ما ينبغى أن يحافظ عليه الكتّاب ليعدّ نتاجهم من فن القصة القصيرة..
ومن غير شك فإن النقاد أسهموا فى تمييع مصطلح القصة القصيرة وانصهار تقنياتها الفنية بسبب عدم التزامهم بتلك المقاييس التى طرحناها وتسامحهم فى تقويم ذلك النتاج ويتغاضون عن مخالفاته الواسعة وتجاوزاته لتقنيات هذا الفن الأدبى وكأنهم يقومون إنتاجا واقعا مفروضا عليه مصطلح القصة القصيرة ولا يقومون القصة القصيرة عندهم من خلال التقنيات الفنية والـمعطيات الجمالية المرصودة لها فى إطار التعريف المناسب لها، وهذا هو سرّ الخلط والاضطراب الذى ساد هذا اللون الأدبى الممتع. وفى الحقيقة أن تـسرّع المبدعين لهذا الفن وغفلة نقادهم أو تسامحهم عن متابعة تـقصيرهم والتنبيه المستمر عليه هو الذى شوّه تقنيات القصة القصيرة وأحدث فيها كل ذلك الاختلاط والاضطراب وليس كما زعم بعضهم من أن "حداثتها جعلتها غير قادرة على خلق تقاليد أدبية خاصة بها"(9) وربما كان هذا الموقف وراء الأزمة التى تعانى منه القصة القصيرة، وفى الحق أن القصة القصيرة قادرة على تحقيق مكانة أدبية سامقة فى سلّم الأنماط الأدبية الإبداعية عندما يحرص مبدعوها، ومن ورائهم نقادها، على التزام الطرائق الفنية الصحيحة فى إبداعها غير خالطين لها بغيرها من ألوان الإبداع الأدبى، وهذه الطرائق أو الخصائص تقوم على مظهرين: مظهر القصّ وعناصره المتعددة: الحدث والشخصية والحبكة والحوار والسرد والعقدة والحل والزمان والمكان، ثم المظهر الانطباعى/ وحدة الانطباع الذى تحققه القصة القصيرة فى العادة لعدم تعدد الأحداث وتنوع الشخوص فيها ولتركيزها على أزمة واحدة.
ومن هنا نجدنا ملزمين بتحديد أهم المقومات الفنية والجمالية للقصة القصيرة التى ينبغى أن يلتزمها مبدعوها ونقادها على السواء لتتحدد لها هويتها المستقلة عن سائر الأنماط الأدبية
 المشابهة.
تعريف القصة القصيرة:
لعلنا لا نجاوز الحقيقة عندما نزعم أن عدم وجود تعريف محدد لمصطلح "القصة القصيرة" هو أهم الأسباب التى أوجدت الاختلاط بين القصة الـقصيرة وغيرها من الأنماط الأدبية مما يدفعنا إلى ضرورة تحديد مفهومها، أو تعريفها تعريفا محددا يجعلها فنّا أدبيا خاصا متميزا عن غيره من فنون الأدب وبرغم ما يلقانا من تعريفات النقاد والدارسين للقصة القصيرة فـإننا نود أن نختار منها ما يذهب الو أن القصة القصيرة المحكمة هى سلسلة مـن المشاهد الموصوفة تنشأ خلالها حالة مسبّبة تتطلّب شخصية حاسمة ذات صفة مسيطرة تحاول أن تحلّ نوعا من المشكلة من خلال بعض الأحداث التى تتعرض لبعض العوائق والتصعيدات/ العقدة، حتى تصل إلى نتيجة قرار تلك الشخصية النهائى فيما يعرف بلحظة التنوير أو الحل فى أسلوب يمتاز بالتركيز والتكثيف الدلالى دون أن يكون للبعد الكمّى فيها كبير شأن(10).
وواضح أن هذا التعريف يحدد الحدث الجزئى الذى تقوم عليه القصة القصيرة وما يتصل به من تطور وتنام تقوم به الشخصية الحاسمة وربما الوحيدْ فيها عبر إطار محدد من الزمان والمكان؛ وكلما كانت هذه العناصر محددة وضيقة كانت أدنى إلى حقيقة القصة القصيرة ومفهومها الفنى/ تقنياتها..وهكذا تتولد القصة القصيرة من رحم الحدث كما يتولد الحلم، ويتنامى كما تتنامى الشرنقة أو اللؤلؤة فى قلب المحارة..
بيد أن النقاد ومبدعى هذا الفن لم يحرصوا على التزام هاتيك الـخصائص الفنية مما جعلها تختلف اختلافا واسعا بغيرها من الأنواع الأدبية فضاعت معالمها وفقدت خصائصها الفنية واصيبت بدرجة كبيرة واسعة من التميّع والانصهار..فقد اختلطت القصة القصيرة بكثير من الأنماط الأدبية سواء منها ما يرتبط بها ببعض الوشائج المتمثلة فى خصائصها الأسلوبية وعناصرها الفنية، وما لا يرتبط بشئ من ذلك ألبتّة؛ فقد خلط بعض النقاد بين القصة القصيرة وبين الرواية القصيرة عندما نظروا إليها من زاوية الطول والحجم بعيدا عن التقنيات الفنية والخصائص المميزة متناسين أو ناسين أن قضية الطول والحجم فى القصة القصيرة ى ينبغى أن ينظر إليها إلاّ من خلال ما تقتضيه الأحداث والحبكة والشخصيات دون تحديد كمّىّ كما ذهب إليه كثير من النقاد.
وقد بلغ ذلك الخلط حدّا جعل بعض النقاد لا يولى قضية الحبكة فى القصة القصيرة أى اهتمام، حتى أنه لا يشترطها فيها. ومثل هذا الأمر يفضى إلـى تميع هذا الفن وعدم تحديد ضوابطه وقواعده وأصوله للفنية، كما يفضى بالتالى إلى إهماله
 وعدم العناية به، أو على الأقل التخلص من مصطلحه الفنى. ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا زعمنا أن انحطاط مستوى هذا الفن الممتع يرجع إلى عدم تحديد أبعاد مصطلحه الفنى تحديدا ينفى عنه التعدد والتنوع والتميع، ولو اتخذت القصة القصيرة لها مصطلحذا منهج محدد من حيث الشكل والبناء والحدث والشخصية وتطورها وأبعادها والحبكة والسرد والـحوار لحظيت باهتمام أكبر وتقدير أعظم، ولحققت من الإبداع والمكانة مـا تصبو إليه. ومن هنا ينبغى أن يحكم على القصة القصيرة وينظر إليها من هذه الزاوية، وبمقدار توافر هذه التقنيات الفنية بحيث ينفى عنها كل ما يخالفها من ألوان الإبداع الأدبى.
كذلك الاعتماد على تعريف "أرسطو" للقصة واشتراطه أن يكون لها بـداية ووسط ونهاية دون تحديد للحدث والشخصية والزمان والمكان أدى إلى اختلاطها بالرواية القصيرة والرواية الطويلة وغيرهما من فنون القصّ أو الحكى.
وقد وفق د/ أحمد يوسف عندما وصّف القصة القصيرة بأنها أقرب الفنون إلى الشعر لاعتمادها على تصوير لمحة دالّة فى الزمان والمكان، ومن شأن هذا التصوير التركيز فى البناء والتكثيف فى الدلالة، وهما سمتان جوهريتان فى العمل الشعرى؛ ومن هنا لا ننتظر من كاتب القصة القصيرة أن يقدم الشخصية بأبعادها المعروفة فى الفن الدرامى، بل ننتظر منه دائما أن يقدمها متفاعلة مع زمانها ومكانها، صانعة حدثا يحمل طابع الدلالة الشعرية، وهو طابع قابل لتعدد المستويات، ومن ثم التأويلات، وبالطبع لا تجسّد ذلك كله إلاّ من خلال لغة تعتمد الصورة وسلتها الأولى والأخيرة".
ومن هنا فكثيرا ما يغفل متعاطو فن القصة القصيرة عن أبرز مواصفاتها أو شروطها الفنية فيما يتعلق بالحدث والشخصية والحبكة والزمان والمكان، وهى أهم العناصر الرئيسة المكونة لفن القصّ عموما ويخيل للـكثيرين منهم أن شرط القصة القصيره/ الأقصوصة - الرئيس هو محدودية الحجم أو الطول محدودية الكلمات أو الأوراق مهما تعددت الأحداث وتنوعت الشخوص وتبدلت الأزمنة والأمكنة..
وبعبارة أخرى يمكن فى نظر هؤلاء أن تكون القصة القصيرة تلخيصا موجزا لأحـداث رواية طويلة أو حتى مسلسلة بالغة الطول مما تطلع به علينا أجهزة البث الفضائى فى هذه الأيام، ما دامت تسكب فى بضع أوراق وتصاغ من بضعة مئات من الكلمات، مما يدفعنا دفعا إلى أن ننبّه مرة أخرى إلى أن أبرز مـقومات القصة القصيرة الفنية أنها تتناول حدثا محدودا جدا، أو لمحة خاطفة ذات دلاله فكرية أو نفسية وقعت فى إطار محدود كذلك من الزمان والمكان يرصدها القاصّ رصدا تتطور فيه الأبعاد وتتمحور فى داخل الشخصية الحاسمة لتبلغ ما يعرف بالعقدة، ثم تأتى لحظة التنوير أو الحل لإشكالية الصراع أو تطور الحدث فيها. ومن هنا كان فن القصة القصيرة فى نظرنا من أشقّ الفنون الأدبية وأصعبها لما تتطلبه من مهارة واقتدار وسيطرة عـلى كافة الخيوط التى تشكلها. وقد لا يشركها فى هذه الصعوبة بشكل متميز غير القصيدة الشعرية.
ومن كل هذا بان من الضرورى فى بحث القصة القصيرة/ الأقصوصة وتقنياتها الفنية وجمالياتها تحديد مفهومات الأنماط الأدبية الإبداعية المرتبطة بواشجة قويه بفن القصة القصيرة فى محاولة جادة لتضييق شقة الخلاف وتقريب وجهات النظر المتباينة فيها.
أما أهم الفنون الأدبية المرتبطة بالقصة القصيرة/ الأقصوصة ارتباطا وثيقا فهى الحكاية والمقامة والخبر والرواية القصيرة والرواية الطويلة والمسرحية والملحمة. وهذه الأنماط يربط بينها الأشتراك العام فى البناء الحدثى والشخوصى والحبكة والحوار والسرد والعقدة والحل/ لحظة التنوير والزمان والمكان. وربما هذا الاشتراك الواسع والعميق بين هاتيك الألوان الأدبية الإبداعية هو سرّ التداخل الكبير فيما بينما وما ينجم عنه من اختلاط كان مدعاة لهذه التوطئة التفريقية التى تهدف إلى تحقيق الفصل أوفكّ الارتباط بينها على هذا النحو الآتى:
أما القصة القصيرة / الأقصوصة فهما مصطلحان لنوع أدبى واحد ينبغى أن يقوم على أقل ما يمكن من الأحداث/ حدث واحد يتنامى عبر شخصيات محدودة أو شخصية واحدة حاسمة، وفى إطار محدود جداً من الزمان والمكان حتى يبلى الصراع ذروته عند تأزم الموقف وتعقيده لتأتى من ثمّ لحظة التنوير المناسبة معزولة عن المصادفة والافتعال دون اشتراط الحجم أو الطول الذى ينبغى أن يكون محدوداً بطبيعة الحال. ووفق هذا التحديد التعريفى يمكن أن تكون "المقامة" أقرب الأنماط الأدبية التى تعتمد على القصّ أو الـحكى إلى القصة القصيرة/ الأقصوصة لاعتمادها على حدث محدد مـتنام وشخصية واحدة حاسمة/ البطل أو الراوى، وحبكة دقيقة وزمان ومكان محددين، وأن خلت من التركيز والتكثيف لتبنّيها نمطا خاصا فى البناء يقوم على البديع والشعر وفقا لطبيعة البيئة والظروف التى ولدت فيها بكل معطياتها الثقافية والفنية المتميزة، بصرف النظر عن نمطيه الحدث والشخصية والحبكة المتكررة فيها تبعا للغايات المتعددة التى أنشئت من أجلها المقامات كما هو معروف(11).
أما الحكاية أو الحدّوتة فهى تختلف عن القصة القصيرة فى تعدد الأحداث وتنوع الشخوص وتبادين الأزمنة والأمكنة واتساعها اتساعا يخرجها عن إطار الأقصوصة وإن اتفقت معها فى تقنياتها الفنية المتعددة: الحبكة والسرد والحوار والعقدة والحل، دون أن تكون الخرافة والأسطورة عاملا رئيسا فى التفرقة بينهما. ولعل أهم ما يميز هذا النمط الأدبى الإبداعى أنه تسوده روح الشعب، وتشيع فيه أحلامه وآماله وطموحاته وآلامه وثقافاته، حتى يمكن أن يعدّ النمط الأدبى المعبر عن وجدان الشعب وروح الجماعة.
أما الخبر فهو ضرب أدبى يقوم على القص والسرد للأحداث المتعددة دون عـناية بتصوير الأبعاد الفنية والاجتماعية وغيرها للشخصيات الفاعلة أو المحركة لها، وذلك لأن العناية منصبة على تطور الأحد فى المقام الأول دون اهتمام فنّى كذلك بالزمان والمكان وتحديد مقوماتها الشخصية، على نحو ما نجد فى خبر "داحس والغبراء" و "البسوس" و "غزوات الرسول (ص) وغيرها، والتى اتخذت صبغة الخبر التاريخى/ الحدث التاريخى.
أما الرواية القصيرة فتقع فى منزله وسط بين منزلتى القصة القصيرة والرواية الطويلة من حيث محدودية الأحداث والشخوص والأزمنة والأمكنة بصورة أكبر من نظائرها فى الأقصوصة وأقل مما فى الرواية الطويلة؛ ولعلها بذلك الأختصار والتركيز تدنو كثيرا من الحكاية/ الحدوتة أو الأقصوصة/ الفانتازيا..
وهنا نصل إلى الرواية الطويلة التى تقوم أساسا على تعدد الفصول والأحداث والشخوص والأزمنة والأمكنة التى تتضافر جميعها لتحقيق غايات فنية ومضامين اجتماعية وفكرية خاصة سعى إليها القاصّ أو الروائى بعناية بالغة. وقد شهدت الرواية الطويلة تطورا فنيّا واسعا زواكب تطور أجهزة البثّ المرئى خاصة عبر المسلسلات المحدودة وغير المحدودة أو المفتوحة (لـيالى الحلمية، مسلسلات شعوب أمريكا الوسطى واللاتينية وغيرها..) وهى روايات مفتوحة بلا نهاية، ولكنها قابلة للتحول إلى روايات طويلة محدودة واضحة النهاية.
والمسرحية تشرك الرواية الطويلة فى أهم خصائصها الفنية فيما عدا الحوار الذى تقوم عليه المسرحية أساسا..أما الملحمة فهى إطار فنّى قصصى يستغل لسرد أحداث متعددة وشخوص متنوعة فى أطر متنوعة وفسيحة من الزمان والمكان، ويتدخل فيها الخيال وتشيع فيها الخرافة والأسطوره، وتقوم على الشعر عند الأمم الأخرى كما فى "الياذة" و "أوديسة" هوميروس الأغريقى و "انياد" فرجيل الرومانى اللاتينى، و "مهابهاراتا" و "رامايانا" الهنود و "شاهنامة" الفردوسى الفارسى، و "كوميديا" دانتى الإيطالى و "الفردوس الـضائعة" لملتون الأنجليزى وغيرها، فى حين يقوم النوع الذى عرفه العرب منها على المزاوجة بين الشعر والنثر أو على النثر وحده كما فى ملاحم "عنترة" و "الزير سالم" و "سيف بن ذى يزن" و "حمزة البهلوان" و "الأميرة ذات الهمة" و "الظاهر بيبرس" و "تغريبة بنى هلال" وغيرها، على ما بين الملحمة العربية والملحمة الأممية من اختلاف واسع غير محدود فى التقنيات الفنية والمضامين الفكرية كما هو معروف.
ومن كل هذا تتبين لنا الخصائص الفنية للقصة القصيرة التى تتميز بها عن سائر الأنمانط الأدبية الأبداعية المشابهة، وكلما دققنا وشددنا فى تحديد تلك الخصائص والسمات الفنية أمكننا التفريق بينها ونفى الأنماط الأدبية المتداخلة معها سواء منها ما يقوم على القص والحبكة والحدث والشخوص والزمان والمكان، وما لا
 يقوم على شئ من ذلك مثل "العجالة" والخاطرة" و "المقال" وغيرها مما لا ينبغى أن يعدّ منها ألبتّة؛ وإذا ما التزمنا، وألزمنا الآخرين بهذه المقاييس الفنية استطعنا أن نتبين أولا صعوبة هذا الفن الأدبى الإبداعى، وثانيا قلة نماذجه وندرة مبدعيه، وبذلك تظل السيطرة والشيوع للقصيدة الشعرية بكل إبداعياتها وتقنياتها وجمالياتها..
ولعل "المقال" كان من أبرز الفنون الأدبية التى اختلطت بالقصة القصيرة على ما بينهما من تباين واسع؛ وربما كان ذلك لمواكبته اياها فى النشأة، ولشيوع النزعة الاصلاحية فيهما وشدة اهتماتم الكتاب فى تلك المرحلة المبكرة بها فيهما/ المقال والقصة القصيرة، مما جعل كثيرا من مـقالات الكتّاب تتداخل مع القصة القصيرة وتتحول إليها تحولاّ أفسد مـفهومها وخصائصها الفنية المتميزة افسادا كبيرا، ونحن لا نستطيع أن نعفى الصحافة من مسؤولياتها ودورها البالغ الخطير فى هذا الاختلاط والتداخل. وقد أشار إلى هذه الظاهرة كثير من الباحثين فى القصة القصيرة خاصة، ولو مضينا نتقصّى أقوالهم وآراءهم فى هذا الصدد لطال بنا الأمر واتسع المجال مما يجعلنا نكتفى بإشارات سريعة إلى بعضها من مثل الرأى الـذى طرحه الناقد الحداثى السعودى "سعيد السريحى" وهو يبحث نشأة القصة الـقصيرة وتحولها من فن شفاهى إلى فن مكتوب مما أدى إلى تلبسها بأدبيات الكتابة وانفصالها عن أدبيات الفن الشفاهى؛ ولما كان "المقال" هو الفن الكتابى السائد والذى تمت المصادقة على مشروعيته فى تلك المرحلة، فقد كان طبيعيا أن تجئ البدايات القصصية امتدادا له"(12).
وعلى هذه الشاكلة تبينت لنا الأبعاد الفنية للقصة القصيرة/ الأقصوصة، ذلك الفن الأدبى الإبداعى الرائع الذى يجدر بمبدعيه، ومن ورائهم نقاده، أن يحرصوا عليها حرصا شديدا لينتجوا فنّا جديرا بالإعجاب والتقدير.
ــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
(1)، (2) النساج: تطور القصة القصيرة فى مصر ص 35 هامش 8،9/ مكتبة غريب 1990.
(3) نفسه 41.
(4) نفسه 40 - 41.
(5) صبرى حافظ: جدول الرؤى المتغايرة 341، الهيئة المصرية 1993.
(6) تطور القصة القصيرة 31 - 32.
(7) انيس المقدسى: الإتجاهات الأدبية 2/ 143.
( جدل الرؤى المتغايرة 123.
(9) نفسه 343.
(10) يمكن مراجعه كثير من الدراسات التى تناولت تقنيات القصة القصيرة من مثل: فن القصة القصيرة رشاد رشدى، القصة القصيرة: يوسف الشارونى، القصة القصيرة: الطاهر مكى، فن كتابة القصة: حسين القبانى، مجلة "فصول" العدد الخاص بالقصة القصيرة/1982….الخ
(11) راجع مثلا: المقامة: شوقى ضيف، أصول المقامات: إبراهيم السعافين، رأى فى المقامات: عبد الرحمن ياغى،….الخ.
(12) جدل الرؤى المتغايرة 343، وانظر: تطور القصة القصيرة 49….، الاتجاهات الفنية للقصة القصيرة فى المملكة 13.
***
[فصل من كتاب "دراسات في فن القص"، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية 2000م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شكراً لزيارتك وقراءتك وتعليقك وأرجو أن أراك مرة أخرى