كتابة الخبر الصحفي عملية إبداعية في المقام الأول، وقد تحدث رواد الصحافة عن عناصر الخبر، وأشكاله، وشروطه، وطرائق كتابته، أي أنهم تحدثوا عن الجانب الموضوعي في الخبر، لكن الممارسة العملية تؤكد أن هناك جانبًا ذاتيًا في صناعة الخبر، لا يقل أهمية عن الجانب الموضوعي، وهذا الجانب الذاتي يتعلق بمواصفات معينة لابد من توافرها ليس في الخبر، وإنما في المحرر نفسه، باعتباره صانع الخبر.
يشمل ذلك: الاستعداد الإبداعي (نمط التفكير غير التقليدي)، والإحساس بالخبر، وامتلاك الأسلوب الخاص، ودرجة المفهومية، والكتابة التشويقية، والثقافة التراكمية، والتدقيق المُحكم.. ونتناول هذه العناصر بالتفصيل، كما يلي:
أولًا : الاستعداد الإبداعي:
الخبر هو إخبار بشيء جديد أو قديم متجدد، ويشمل تضمين أكبر قدر من الحقائق والأحداث والوقائع والمعلومات في أقل عدد من الكلمات، كما أنه: التكثيف، وانتقاء الكلمات المعبرة، وعدم التلوين، ونقل الحقائق كاملة.
ويبدأ الإبداع الخبري مع عملية صناعة الخبر ذاتها. والمحرر الجيد يجتهد دائمًا في صنع الخبر لا بأن ينقله فقط، أو أن ينتظر حدوثه فقط. ويمكنك من جملة في حوار أو مقال أو تحقيق أو نقاش أو تأمل أن تلتقط فكرة خبر جديد، وأن تصنع منها خبرًا.
فأنت تلتقط الفكرة، ثم تتصل بالمصادر، ثم تجمع المعلومات، ثم تصوغ القصة الخبرية الجديد.. لتصبح في النهاية: صناعتك، وتميزك، وإبداعك.
وهكذا، أنت الذي تختار الخبر، وأنت الذي تصنعه، وأنت الذي تحرره (بأسلوبك)، وأنت الذي تصوغه بمهاراتك، وأنت الذي تقدم أو تؤخر فيه.. إلخ، حسبما يتراءى لك.
إن الخبر مرآتك، وأنت مرآة خبرك، فهو يعكس ميولك، وأولوياتك، واهتماماتك، وتنعكس شخصيتك عليه، فأنت خبرك، وشخصيتك خبرك، وخبرك -أيضًا- عنوان شخصيتك، والدليل عليها.
وأنت كصحفي "ترمومتر الحياة"، لأنك مقياس حقيقي لاهتمام الناس بالأحداث من حولك.. فأنت الذي ترتب لهم حياتهم، وتحدد لهم أولوياتهم، بما تركز عليه من أجندة عملك، وتحديد ثقل وزن كل خبر، ومدى ضخامة أو اهتمام الناس به.
ثانيًا : الإحساس بالخبر:
لابد من تنمية الحاسة السادسة.. إنها الإحساس بالخبر.. أو :"شم الخبر"، كما يقولون،..إنه الآن صغير، لكنه سيكبر مع مرور الأيام .. قضية هشام طلعت مصطفى بدأت هكذا: العثور على جثة مطربة لبنانية مغمورة في أحد فنادق دبي.. لم تكن هذه المطربة المغمورة سوى سوزان تميم.. إحساسك وشمك لرائحة الخبر، يجعلك لا تتجاهله، بل تنشره من فوره، وتركز على تفاصيله، وتأتي بالجيد المدهش من أسراره، كونك استشعرت منذ البداية أنه قابل للتصاعد.
ثالثًا : المفهومية:
لابد أن يكون الخبر مفهومًا ، ويتحقق ذلك بالتغلب على عوائق الفهم، وعدم اللجوء إلى الغموض، وعدم إيراد مفردات غير مفهومة، أو غامضة أو ملتبسة أو متناقضة.. تخلص من ذلك كله.. مثلا: كلمة أوردتها وكالة الأنباء.. كتبها المحرر.. فيها خطأ.. لا تناسب مجتمعاتنا.. معروفة في ثقافة دون ثقافة، ومجتمع دون مجتمع.. المهم الاعتماد على قاموس لغوي موحد للشائع والمتداول من الألفاظ.. ابتعد عن الغريب والمستهجن وغير المفهوم منها.. بحيث تتأكد في النهاية من أن درجة "مفهومية" خبرك، أو فهم القراء له، بنسبة مائة بالمائة.
رابعًا : امتلاك الأسلوب الخاص:
تظل كتابة الخبر -مهما خضعت لمعايير مهنية- مسألة شخصية في المقام الأول.. فالفكرة فكرتك، والأسلوب أسلوبك، والمعالجة صُنعُك.. وفي الوقت نفسه: لا بأس بأن يكون لكل منا
-كمحررين- أسلوبه الخاص في انتقاء وصياغة وتحرير الخبر، ولكن في إطار الثقافة الجمعية .. فعدد الكلمات، وكيفية البدء، وطول الفقرات، وعدد الكلمات.. كلها أمور ذاتية، تختلف من محرر إلى آخر، بحسب كفاءته، وقدرته، ورؤيته، في إطار الالتزام بمعايير مهنية واحدة.
والأمر هكذا، يمكن تنمية القدرات الذاتية لكل محرر في التعامل مع الأخبار بتأمل طرائق صُنعها، وصوغها في المدارس الصحفية المختلفة، بحيث يصقل الصحفي هذه المَلَكة لديه، مع الإثراء الدائم لقاموسه اللغوي.
خامسًا : الجاذبية والتشويق:
تتحقق الجاذبية في الخبر بانتقاء زاوية محددة (جماهيرية) فيه.. مثلا: أخبار القضايا يُفضل ألا نكتفي فيها بالقول: محكمة كذا تنظر اليوم قضية كذا .. بل لابد من إضفاء مسحة من الجاذبية الجماهيرية على الخبر بالإشارة في السطر الثاني مثلا إلى أبرز ما في القضية، وتذكير القاريء بآخر مطالبات النيابة أو المدعي أو المدعى عليه..إلخ.
في الوقت نفسه، لابد من أن تكون كتابتك بسيطة ومفهومة وتشويقية..ولا بأس هنا بألا تصب كل المعلومات في عنوان الخبر مرة واحدة، وترك مساحة بسيطة من "الغموض التشويقي"..وفي الوقت نفسه لابد من تحديد المقدمة كيف ستكون: ملخصة.. مقتبسة.. مجازية.. حكمة أو مثلا.. إلخ.
وفي حالة القصة الخبرية متعددة الجوانب يجب أن تكون المقدمة مكثفة؛ فتذكر الجوانب والمعلومات مجملة فيها، ثم "تفرد" كل فقرة لاحقة من الخبر بمعالجة وتوضيح فكرة ثانوية أو موضوع فرعي لفكرة رئيسة وردت في المقدمة، وهلم دواليك..أو تبرز خطًا واحدًا من المعلومات هو الأهم .. ثم تورد بقية الخطوط تباعا في جسد الخبر، وثناياه، ومتنه.
سادسًا: الثقافة والذاكرة التراكمية :
متابعة الأخبارلحظة بلحظة، ويومًا بيوم؛ يتحول إلى تراكم يومي في العمل الخبري، وهو أمر يساعد على فهم كل خبر ومعلومة، ويعين على تحديد زاوية التناول بحيث لا تكون قديمة، ولكن جديدة، وجذابة.. في آن، كما أنه يقود إلى انتقاء وصوغ أخبار "جيدة"، و"غير مُكررة".وهكذا تفيد القراءة والمتابعة التراكمية "اللحظية" للأحداث من حولنا في مساعدتنا على تحديد القديم، والمتكرر، وبالتالي القدرة على اتخاذ القرار الصائب، سواء بالنشر أو عدمه.
سابعًا: التدقيق والإحكام:
يقتضي الخبر السليم تدقيق كل معلومة أو رقم فيه، فضلًا عن تدقيق أسماء وهُويات الزمان والمكان والأشخاص والأرقام، ويتحقق ذلك بالبحث عبر النت، أو تدقيق المعلومة من المصدر نفسه، أو بالاستعانة بزملاء..وقد يعطيك المصدر معلومة غير دقيقة، وهنا يجب عليك أن تكتشفها، لأن الخطأ في هذه الحالة لن يكون مسئوليته وحده.
والواقع أن القدرة على الكتابة "الدقيقة والمحكمة" فن لا يتقنه أي أحد، لذا لابد من التدرُّب المتواصل عليه، والتمرس به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شكراً لزيارتك وقراءتك وتعليقك وأرجو أن أراك مرة أخرى