الإسلام والشعر
كان الشعر ديوان العرب فى الجاهلية, أودعوه وقائعهم وأيامهم ومفاخرهم وأحسابهم وأنسابهم وآثارهم وأوصاف بيئتهم, وكان له سحره وروعة تأثير نفوسهم.
وكان الشعراء ذوى مكانة سامية مرموقة بينهم, لأنهم ألسنة القبائل الذائذون عن الذمار, المدافعون عن الأحساب والأنساب والشرف. لذا كانت القبيلة إذا نبغ فيها الشاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك, ووضعت الأطعمة, وإجتمع النساء يلعبين بالمزاهر كما يضعن فى الأعراس, وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد, أو أشاعر ينبع أو فارس تنتج, وهذه كلها تقتضى الوقوف عند قضيتين مهمتين هما:
1. موقف الإسلام من الشعر: أن من يتبع آثآر الدارسين فى الأدب العربى الإسلامى بحيث يجد أن أصحابها قد تباينت آرآؤهم للشعر فى معالجة هذه القضية. فمنهم من ذهب إلى أن الإسلام أدار ظهره للشعر وأعرض عن الشعراء فخبت جذوته, وكسدت سوقه, وعزف الناس عن ذلك الفن الذى طالما إستأثر بإهتمامهم وحسبهم قبل الإسلام. وفريق ثان يرفض هذه الوجهة, مقررا أن الإسلام كان سببا فى إزدهار الشعر وقوته, لأن أحداثه جلت من عقد الألسنة وأنطقت بالشعر كثيرين لم يكونوا ينطقونه. والحق مما نقول: أن الإسلام لم يصرف المسلمين عن الشعر لأجمعه, ولم ينه عنه كله, كما أنه لم يطلق العنان للشعراء, بل رسم لهم طريق الشعر وحدد غايته. وقد نزه القآن الكريم الرسول المصطفى عن قول الشعر فى غير موضع, منها قوله تعالى: وما علمناه الشعر وما ينبغى له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين (يس: 69), ومقصد هذه الآية بحيث لا يحتمل تنفيرا من الشعر أو تهجينا له كما فهم بعضهم, فلعل الحكمة فى تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن قول الشعر, عن أن يكون شاعرا, أن الله سبحانه وتعالى وصف الشعراء بالطيش والسفه, وبأنهم يقولون ملا يفعلون, فهم متهمون بالغلو والكذب ومجاوزة الحق فى كثير من فنهم, وتلك صفات برأ الله رسوله منها. وأضاف أيضا أن قريشا نسبت فضيلة الرسول وحجته البالغة إلى تأثير الشعر لا إلى فضل الرسالة حين زعموا أن ما يتلى عليهم من آي الذكر الحكيم ليس وحيا من عند الله, بل إلهاما من شياطين الشعراء, ولذا قال الله تعالى: فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون, إنه لقول رسول كريم, وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (الحاقة: 38-41). ومما تقدم ننتهى إلى أن القرآن الكريم لم ينفر من الشعر كله, ولم يذم الشعراء أجمعين, وإنما عادى الشعر الظالم الذى يجور على الحق ويجافى العدل والخير, كما عادى الشعراء الذين ينحون بشعرهم هذا المنحى. وكذالك موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الشعر فمتفق تماما مع موقف القرآن الكريم, فقد ذموا الشعر الذى يصد عن سبيل الله, ويقف فى وجه الدعوة الإسلامية’ وينهش أعراض المسلمين, ويشير الضغائن والأحقاد, وكذلك المديح الكاذب, والفخر المتعالى بالأحساب والأنساب.
2. قلة الشعر وضعف مستواه الفنى: شغلت هذه القضية دارسى الأدب ونقاده قديما وحديثا, ولعل إبن سلام الجحمى (ت 231 ه) أول من نبه قلة المروى من شعر صدر الإسلام خصوصا, بحيث معللا بتشاغل المسلمين بالجهاد وموت كثير من الرواة فقال: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم على أصح منه, فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب, وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم, ولهت عن الشعر وروايته, فلما كثر الإسلام, وجاءت الفتوح وإطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤؤلو إلى ديوان مدون, ولا كتاب مكتوب, وألفوا ذلك وقد هلك من العرب بالموت والقتل, فحفظوا أقل ذلك, وذهب عليهم من كثير". وقد تأثر إبن خلدون (ت 732 ه) بهذه الوجهة فقال: "إنصرف العرب عن الشعر أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحى, وما أدهشهم من أسلوب القرآن الكريم ونظمه فأخرسوا عن ذلك, وسكتوا عن الحوض فى النظم والنثر زمانا, ثم إستقر ذلك وأونس الرشد من الملة, ولم يزل الوحى فى تحريم الشعر وخطره, وسمعه النبى صلى الله عليه وسلم وأثاب عليه, فرجعوا حينئذ إلى دينهم منه". ونهج بعض المحدثين منهج إبن خلدون, إذ قرر أن الشعر قد خبت جذونه وتوارت بلاغته فى أبان البعثة النبوية وخلالها, لقد توارى الشعر وتجافى إنشاده الشعراء بالشكل الذى تعودوا أن ينشئوه وينشدوه قبل البعثة المحمدية بقليل, فإذا سأل سائل عن السبب الذى جعل الشعر يحتجب عن الناس, وجعل الشعراء يحجمون عن قوله, فذلك هو الجواب, ولقد توارى الشعر خجلا وآثر الإنزواء حياء إمام ذو الدعوة الجديدة, وحيال سلاسة الأسلوب كتابها العزيز حتى أن شاعرا فحلا مثل لبيد بن أقلع عن الشعر تماما, بعد أن أسلم بسبب إحتفاله بالقرآن الكريم. وفى هذا قد إنقسم الدارسون والنقاد المحدثون إلى قسمين فى معالجتهم هذه القضية, فمنهم من قضى بضعف الشعر فى عصر صدر افسلام محتجا بأدلة كثيرة منها:
أ. أن عصر صدر الإسلام كان ثورة على مفاسد الجاهلية, والشعر تخمله الثورات عادة بحيث لا يستطيع تمثلها إلا بعد حين
ب. شيوع ظاهرة الإرتجال, وخاصة فى شعر الفتوحات, ولذا غلب المقطوعات على أشعارهم.
ج. إنقضاء عصر الفحول, إذ جاء الإسلام بعد رحل فحول الشعراء الجاهليين على أن من بقى منهم كالأعشى والخطيئة, ولبيد بن ربيعةبحيث تقد به العمر, كما أثر لبيد خاصة قراءة القرآن وتدارسه.
وأما من ذهب من المحدثين إلى إنكار ضعف الشعر فى ذلك العصر, بحيث قد إحتججوا بأدلة منها:
أ. فساد المقارنة بين الشعر الجاهلى وشعر صدر الإسلام من حيث الكم, إذ أن العصر الجاهلى يشغل حقبة زمنية حيث تعدل ثلاث أضعاف عصر صدر الإسلام تقريبا (41 إلى 150)
ب. لم يلق عصر صدر الإسلام عناية جد كبيرة من المشتغلين بالأدب, إذ هناك مجموعة من الشعراء لم تجمع أشعارهم من مصادر السير والطبقات
ت. بطلان ما شاع عن لبيد بن ربيعة حول إحجامه عن الشعر بعد إسلامه وذلك نتيجة دراسات متخصصة أضاف إلى ديوانه المحقق
أثر الإسلام فى الشعر
أولا: أغراض الشعر وفنونه
لقد كان الإسلام أثر جلى فى هذا الجانب, فقد إستحدثت أغراض, وطرحت أخرى أو كادت, وعدلت أغراض. فمن أبرز الأغراض التى إستحدثت هى: الدعوة إلى الإسلام, ونشر مبادئه, والتصدى لأعدائه ومارعتهم بالحجة, بحيث يدخل هذه الأغراض تصوير الحروب الإسلامسة’ وحث على الجهاد فى سبيل الله, والفوز بالشهادة, والفخر بالفداء.
ومن أبرز الشعراء الذين حطوا على عاتقهم هذه المهمة الجليلة, هم: حسان بن ثابت, وكعب بن مالك, وعبد الله بن رواحة, بحيث قد مرت نماذج لهم فى هذا المجال عند حديثنا عن الشعر.
ثانيا: التصوير الفنى
فى هذا الجانب نلحظ ظواهر عدة من أبرزها:
1. لعل أبرز الأغراض التى تقيد فيها الشعراء بهذا المنهج هى: المديح, والفخر, والرثاء, لا سيما فى بداية عصر النبوة لقرب العهد بالجاهلية
2. تأثر معانى الشعر بالإسلام ومبادئه وقيمه وأحداثه, ولا غرو فقد صدر هذا الشعر عن نفوس مسلمة عايشت أحداثه, غير أن الشعراء لم يكونوا على مستوى واحد فى هذا التأثر تبعا لإختلافهم فى معايشتهم للإسلام طولا وقصرا. وقد إلتزم أيضا بالصدق فيما قالواو ومن ثم خلت أشعارهم من كل ما يخل بالقيم الإسلامسية النبيلة كالمدح الكاذب والإطراء الزائف, والإقذاع فى الهجو.
3. كما تأثرت الألفاظ والأساليب بالقرآن الكريم والبلاغة النبوية, فبدت الألفاظ عذبة سلسة رقيقة, لا خشونة فيها ولا غرابة ولا تقعر, وجاء الأسلوب جزلا قويا.
4. كان للإسلام أثر فى الصورة البيانية, إذ حرص الشعراء على أن يستقوا من ينابيع البيان فى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
الأربعاء، 19 سبتمبر، 2012
اللغة: معناها ونشأتها
اللغة: معناها ونشأتها
كما إصطلحه الفيروزآبادى صاحب القاموس "المحيط", كلمة "لغة" على وزن فُعْلَةٌ من الفعل: لغا-يلغو بالمعنى: إذا تحدث, وأما مفهموم اللغة فلقد إختلف العلماء فى تعريف اللغة إختلافا بينا طبقا لمناهج البحث التى يتبعونها, وهذا بيانه فيما يلى:
عرفها البعض الأول بـــ: أساس عقلى أو نفسى, والبعض الثانى بــ: فكرة منطقية أو فلسفية, والبعض الثالث عرفها من ناحية وظيفتها فى المجتمع. ولكن سنذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتى:
1. عند علماء النفس: تسمى بــ" أية وسيلة للتعبير عما فى النفس لغة", فاللغة عندهم هى: كل أداة تستعمل لنقل ما يخطر بشعور الإنسان إلى غيره. وتنقسم اللغة فى نظرهم إلى: حركية, وصوتية, ورسمية وخطية.
2. عند علماء المجتمع: تعرف بــ"النظر إلى وظيفتها فى المجتمع" فاللغة عندهم: نظام من رموز ملفوظة عرفية بواسطتها يتعاون ويتعامل أعضاء المجموعة الإجتماعية المعينة.
3. عند علماء المنطق, بحيث يعلقون أهمية كبرى على إستعمال اللغة بوصفها وسيلة للتعبير عن الأفكار, وللغة لها ثلاث وظائف هى:
أ. كونها وسيلة للتوصيل, اي توصيل الرغبات والعواطف والأفكار وما شاكل ذلك
ب. كونها مساعدا آليا للتفكير
ت. كونها أداة للتسجيل والرجوع, يعنى بذلك لغة الكتابة حين يكتب الإنسان ويدون أفكاره وآرآءه ثم يرجع إليها وقت الحاجة.
4. عند علماء الفلسفى, إذ عرفها بـــ"إستعمال رموز صوتية منظمة للتعبير عن الأفكار ونقلها من شخص لآخر.
5. عند علماء اللغة المحدث, بحيث تطلق على النطق والتكلم وعلى القوة, كما تطلق على الألفاظ التى يعبر بها المتكلم عما يخالج نفسه من المعانى الآتية إلبه من الإحساس والشعور وقوى التفكير, ولذا تعرف بأنها العمل الفكرى المتكرر دائما لإبراز الفكر الإنسانى فى إحداث أصوات منظمة أو مختلفة.
6. عند علماء اللغى القدامى, هى أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم, وعلى أي حال فليس الغرض من اللغة عند الإنسان المتمدين مقصورا على نقل الأفكار الإنسان الواحد إلى غيره فقط, بل إنها تتخذ وسيلة للفكر والفهم وتربية الذوق والخيال.
وخير مما نقول أن اللغة هى: أصوات تعبر بها كل قوم عن أغراضهم ويتخدونها للفكر والفهم وتربيته الذوق والخيال.
نشأة اللغة عند الإنسان
ترجع اللغة الإنسانية إلى المجتمع نفسه وإلى الحياة الإجتماعية إذ لولا إجتماع الأفراد بعضهم مع بعض, وحاجتهم إلى التعاون والتفاهم فى مشاكل الحياة المتشابكة والمتنوعة لما وُجدت اللغة. فاللغة إذا ظاهرة إجتماعية مثلها مثل غيرها من الظواهر الإجتماعية الأخرى ويؤثر فيها فى هذه الظواهر.
ومن هنا يتبين لنا أن المشكلة ليست فى التحدث عن الأسباب التى أدت إلى نشأة اللغة ولا البحث عمن أنشأها. وإنما المشكلة فى الكشف عن العوامل والأسباب التى أدت إلى وجودها فى هيئة أصوات مركبة ذات مقاطع متميزة الكلمات, والكشف عن الصورة الأولى التى ظهرت بها هذه الأصوات وبيان الأسباب والعوامل التى وجهت إلى هذا الأسلوب دون ما سواه.
وفى العصر الحديث شغل هذا الموضوع المفكرين والفلاسفة الأوروبيين والأمريكان وجميع الباحثين اللغويين فى مختلف بلدان العالم, بحيث تنوعت الآرآء بين العلماء, فمن قائل بالمواضعة والإصطلاح, ومن قائل إن الفضل فى نشأة اللغة يرجع إلى غريزة خاصة فى الإنسان, ومن قائل إن اللغة الإنسانية نشأت عن الأحداث الطبيعية أى التعبير الطبيعى عن الإنفعالات....إلخ.
وهذه الآرآء ويكفى أن نشير إلى أهم هذه النظريات, وهى:
أولا: نظرية التوقيف
ومؤدى هذه النظرية أن اللغة الإنسانية الأولى توقيفية, أى قائمة على التوقيف, أو الوحى والإلهام من الله سبحانه وتعالى, ويرى أصحاب هذه النظرية أن الله تعالى لما خلق الأشياء ألهم الأول آدم عليه السلام ولقنه كل الشيئ يتعلق باللغة كتقطيع الأصوات وتكوين الكلمات ووضعها بإزاء معانيها, وذلك بأحد أمور ثلاثة:
1. عن طريق الوحى, 2. بعلم ضرورى, 3. بخلق أصوات فى بعض الأجسام.
وإختلف القائلون بهذه النظرية فيما علمه آدم عليه السلام, فقيل علمه الأسماء كلها, وهى الأسماء التى يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وقيل علمه أسماء الملائكة. وقيل علمه إسم شيئ وبجميع اللغات, فكان هو وولده يتكلمون بها ثم أن ولده تفرقوا فى مختلف البقاع, وعلق كل واحد بلغة فغلبت عليه ونسي ما عداها, وذلك لتقادم العهد وتوالى الأجيال.
وأدلة أصحاب هذه النظريه هى:
1. الأدلة النقلية: حيث إستدل المسلمون فى قول الله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها, ثم عرضهم على الملآئكة...إلخ". أما غير المسلمين هم إستدلوا بما ورد فى سفر التكوين الجزء الثانى الفقرتين 19, 20 حيث يذكر: "والله خلق من الطين حيوانات الحقول وجميع طيور السماء ثم عرضها آدم ليرى كيف يسميها وليحمل كل منها الإسم الذى يضعه له الإنسان فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول".
2. الأدلة العقلية, إستدل القائلون بهذه النظرية فيما يلى:
أ. لو كانت اللغات إصطلاحية لإحتيج فى التخاطب بوضعها إلى ‘صطلاح آخر من لغة أو كتابة بحيث يعود إليه الكلام.
ب. الكلام أجل من أن يبدعه الإنسان, وكيف يبدعه وهو إنما يفكر عن طريق ألفاظ متخيلة يناجى بها نفسه.
ج. يقول إبن فارس: الدليل على صحته إجماع العلماء على الإحتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه ثم إحتجاجهم بأشعارهم ولو كانت اللغة مواضعة وإصطلاحا لم يكن أولآئك فى الإحتجاج بهم بأولى فى الإحتاجج بنا ولو إصطلحنا على لغة اليوم ولا فرق.
ثانيا: نظرية المحاكاة
ومؤداها هى أن لغة الإنسان الأول حيث نشأت أول ما نشأت عن طريق المحاكاة, فلقد سمى الإنسان الأشياء بأسماء مقتبسة من أصواتها وعبر عن الأفعال بأصوات تشبه الأصوات التى تصدر عند قيام الإنسان بتلك الأعمال, وسارت اللغة فى سبيل الرقى شيأ فشيأ تبعا لإرتقاء العقلية الإنسانية وتقدم الحضارة وإتسع نطاق الحياة الإجتماعية وتعدد الحاجيات.
ثالثا: نظرية المواضعة
ومؤدى هذه النظرية, أن اللغة حيث إبتدعت ووجدت عن طريق التواضع والإتفاق وإرتجال ألفاظها إرتجالا, فالإنسان هو الذى ركب الكلمات من الحروف ووضع ألفاظ اللغة لمعانيها. ويقول أصحاب هذه النظرية بأن الإنسان دعته الحاجة إلى أن يتفاهم مع غيره من بنى قومه, ولا يمكن ذلك إلا عن طريق اللغة مما أدى أن يقوم واحد أو جماعوة إلى وضع الألفاظ وتكوينها من الأصوات والحروف المختلفة ثم وضعها بإزاء معانيها ثم عرف الباقون هذين عن طريق التكرار والإشارة كما يفعل الوالد بالطفل الصغير, وكما يفعل الأخرس مع غيره حيث يبين عما فى نفسه عن طريق تكرار الإشارة عدة مرات.
وأدلة هذه الأصحاب النظرية هى:
1. أن أول اللغة لا بد أن يكون مواضعة ولا بد مع المواضعة الإشارة الجارحة والخالق منزهعن الجارحة, وإذا إمتنعت المواضعة من الله فلا بد أن تكون من الإنسان.
2. إذا لم تكن اللغة مواضعة, لكانت توقيفية, ويلزم من كونها توقيفية بحيث وجود واسطة بين الله وبين البشر لإستحالة خطاب الله تعالى مع كل أحد من بنى الإنسان لقوله تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا.
رابعا: نظرية الغريزة الكلامية
ومؤدى هذه النظرية أن اللغة حيث نشأت عن طريق غريزة خاصة بحيث زود بها أفرادا الجنس البشرى فى بادئ الأمر, وهذه الغريزة كانت تحمل كل فرد من الأفراد على التعبير عن كل ما يدركه من الحسيات والمعنويات بكلمات خاصة لكل نوع.
وأدلة هذه النظرية هى:
1. إعتمد على إثبات الأدلة المستمدة من البحث فى الكلمات فى اللغات الهندية الأوربية إذ تبين أن هذه الكلمات بحيث ترجع إلى خمسمئة أصل مشترك, وهذه الأصول تمثل اللغة الإنسانية الأولى, وذلك بسبب الأمرين:
أ. لأنها تدل على أمور كلية
ب. لأنها لا تشبه بين معانى هذه الأصول والأصوات, حيث يمكن أن تكون اللغة نشأت عن طريق التواضع. وذلك نظرا لدلالة هذه الأصول على معان كلية بحيث لا يمكن التواضع عليها.
خامسا: النظرية الحديثة فى نشأة اللغة
وتسمى هذه النظرية بتطور اللغوى, بحيث مؤديها أن اللغة ظاهرة إجتماعية ومعنى كونها إجتماعية أنها تنمو فى المجتكعات, وذلك نتيجة لإتصال أفراد المجتمع بعضهم ببعض وحاجتهم إلى التفاهم وظاهرة اللغة كأي ظاهرة إجتماعية أخرى بحيث نشأت أول ما نشأت بسيطة ساذجة, ثم بمرور الزمن سلكت هذه هذه مراحل متعددة فى تطررها ونموها حتى وصصلت إلى درجة الكمال أو قاربت.
أما مراحل التى سلكتها اللغة فى تطورها فى الحالتين السابقتين, فيمكن إجمالها فى عدة مراحل الآتية:
1. مرحلة الأصوات الساذجة الإنبعاثية السريعة التى صدرت عن الإنسان فى حياته الأولى حين لم ينضج أعضاء التكلم لديه ولم تحدد رغباته. وتظهر هذه المرحلة عند الطفل فى حياته اللغوية فى الوقت الذى تصدر عنه فى أول عهده بالنطق بعض أصوات مبهمة بحيث لا يفهم منها فى كثير من الأحيان غرض معين.
2. مرحلة الأصوات المكيفة المُنْبِئَةُ عن الأغراض والرغبات المصحوبة فى الغالب بالإشارة أو الحركات التنوعة المساعدة للأصوات على الإبانة عن الأغراض التى يقصدها ويعنيها, ويشبه هده المرحلة فى نمو الطفل اللغوى لدى الإنسان بحيث لم يكن هناك كبير فريق بين أصوات الإنسان وأصوات الحيوان الدالة على شعوره بالحاجة إلى مساعدة غيره, فهو بهذه الأصوات يعبر عن شعوره ويستعين بغيره من أبناء جنسه.
3. مرحلة المقاطع المتكرر, بحيث تستعمل لغة الإنسان أصوات واضحة المعالم ومحددة بعد أن كانت فى صورة مقاطع قصيرة, مستنبطة فى الغالب من الأصوات المحيطة به من الأشياء والظواهر الطبيعية أو على الأقل متأثرة بها وهذه المرحلة تشبه عند الطفل المرحلة التى تبدأ فى الأشهر الأولى من السنة الثانية من حياته, وذلك حين ينطق بمقاطع مكررة يطلب بها ما يريد من أشياء معينة متأثرة فى ذلك بما يحيط به.
4. مرحلة الكلمات المكونة من المقاطع, بحيث تم إكتمال لغة الإنسان الفطرية الأولى, ولقد وصل إلى هذه المرحلة حين إكتمل عقله وتم لأعضاء النطق عنده النضج والإكتمال وإتساع نطاق حياته الإجتماعية وزادت حاجته للغة كى يتفاهم عن طريقها مع غيره. وتشبه هذه المرحلة فى حياة الطفل اللغوية مرحلة نموه اللغوى حين يستطيع التكلم كما يتكلم غيره, وممن يحيطون به ويخالطونه وهنا تتألف ثروته اللغوية حينئذ من مجموعة الكلمات الضرورية التى تشيع فى بيئته للتعبير عن أغراضه وتنتهى هذه المرحلة فى بداية السنة الرابعة عند الطفل بالتقريب.
5. مرحلة الوضع والإصطلاح, وهى أن تكون فطرة تقوم على أساس فطرى وذلك هو حاجة الإنسان الملحة إلى السيطرة على زمام البيئة التى يعيش فيها وجعل لغته مسايرة لتفكيره ومشاهداته التى يتسع نطاقها على مر الزمن لكثرة التجارب وتشعب نواحى الحياة. ويشبه هذه المرحلة مرحلة النمو اللغوى لدى الطفل حينما يذهب إلى المدرسة ويدرس العلوم والفنون ويتعلم المصطلحات العلمية والفنية المختلفة التى تحتوى عليها تلك العلوم والفنون.
6. مرحلة وضع قواعد اللغة, بحيث لم يكتف الإنسان الذى لا تقف جهوده الفكرية عند حد, بأن يتعلم اللغة ويعرف مفرداتها وأساليبها الضرورية لسد حاجته وقضاء مآربه الإجتماعية بل إنه أخذ يقنن اللغة عن طريق وضع قواعد, بحيث تحافظ عليها وتصونها من الإنحراف والخلل وتسهل تعلمها وتعليمها كما أنه أخذ حين إكتمل عقله وتم نضجه الفكرى, ويضع القواعد الفكرية وهى القوانين المنطقية التى تحفظ الفكر وتحميه من الفساد. وتشبه هذه المرحلة من مراحل النمو اللغوى لدى الطفل وتلك المرحلة التى يتعلم فيها قواعد اللغة حين ينمو إدراكه ويستطيع أن يستنبط القواعد العامة والقوانين الكلية من الأمور الجزئية, ولا يصل الطفل إلى هذه المرحلة إلا فى أواخر السنة الحادية عشرة من العمر.
مرحلة التنميق والتجميل, بحيث يظهر أن هذه المرحلة ليست مستقلة تمام الإستقلال عن المراحلتين السابقتين بل أنها متداخلة فيها مكملة لهما وتتمثل هذه المرحلة فى تجميل الكلام وإخضاعه لمقاييس النظام أو النثر الفنى وكان من آثار ذلك ظهور الشعر والنثر الفنى اللذين فيهما جمال اللغة. ويُظَن أن هذه النظرية أقرب النظريات التى مرت بنا وأساس ترجيح هذه النظرية على ما عداها أنها تخضع اللغة فى نشأتها وتطروها إلى سنة التطور شأنها فى ذلك شأن كل كائن حى بحيث ينشأ صغيرا ثم شيئا فشيأ بحكم طبيعيته البيئة التى ينشأ فيها حتى يصل إلى درجة الكمال.
مستويات التحليل اللغوى
مستويات التحليل اللغوى
التحليل اللغوى هو دراسة اللغة لمعرفة أنواع الأصوات ومواقعها وسماتها ووحداتها الصوتية ومتغيراتها والوقوف على السوابق واللواحق والداخل وجذور الكلمة, والكشف بين مكونات الجملة الواحدة, وبيان المناسبة بين معانى الكلمات المختلفة للوصول إلى فهم المعانى المقصود.
ومن هنا يتنوع مستوى التحليل اللغوى إلى:
الأول: التحليل الصوتى
هو دراسة الأصوات لمعرفة أنواعها ومواقعها وسماتها ووحداتها ومتغيراتها الصوتية. والصوت البشرى ينقسم إلى:
أ. صوائت (الحركة + الأصوات اللين) أو إن شئت قلت صوائت قصيرة وصوائت طويلة
ب. صوامت اللين: هى الأصوات التى تخرج مع الهواء المندفع من الريئتين مارا بالقصبة الهوائية ثم يمر بالحلق ثم بالفم ثم يغادر الشفتين دون أن يتعرض طريقا أي عائق.
ومن هنا كان أصوات اللين التى تخرج فى السمع عن الأصوات الساكنة إذ أن الأصوات الساكنة يحدث معا إنسداد جزئى أو كلى فى نقطة معينة, ومن هنا كانت أقل وضوحا من أصوات اللين.
وتنقسم أصوات اللين من حيث الكم إلى:
1. صوت لين مختلس, كالحركة المختلسة فى القراءات القرآنية وهى ما تعرف بـ"الروم"
2. صوت لين قصير, وهى الحركات الثلاثة الفتحة الضمة الكسرة
3. صوت لين طويل, وهى أصوات المد الطبيعى فى التجويد
4. صوت لين مرن, وهو صوت المد حين يكون بعده هوزة أو ساكن فى القراءات مثل: يشاء و الضآلين
وينتوع أصوات اللين من حيث الكيف إلى:
1. صوت لين أمامى, وهو الكسرة والإمالة الخفيفة الشديدة
2. صوت لين خلفى, وهو الضمة والفتحة والمحالة إلى الضمة كنطق "يوم" فى العامية
3. صوت لين متسع.وهى الفتحة
4. صوت لين ضيق, وهى الكسرة والضمة
والأصوات الساكنة بحيث تنقسم إلى:
1. المجهورة, وهى التى يهتز معها الوتران الصوتيان
2. المهموسة, وهى التى لا يهتز معها الوتران الصوتيان, وهى تنقسم أيضا إلى:
أ. شذيذة ورخوة
ب. مطبقة وغير مطبقة
ج. منفتحة ومستعلية ومستقلة
ثانيا: التحليل البنائى
هو تحليل الكلمات للكشف عن الوحدات الصرفية وبيان الأبنية, وأحوالها ومعرفة السوابق واللواحق والدواخل والجذور للوقوف على وظيفة الكلمة فى الجملة وعلاقتها بسواها.
فتقول مثلا: عَلِمَ فعل ماض, وعِلْمٌ المصدر, ويَعْلَمُ للدلالة على المضارع, وإِعْلَمْ للدلالة على فعل الأمر, وعَالِمٌ للدلالة على إسم الفاعل, ومَعْلُوْمٌ ببدلالة على إسم المفعول, وعَلِيْمٌ للدلالة على صيغ المبالغة, وهكذا مما هو معلوم فى علم الصرف أي ما سمى بــ"Morfhology".
ثالثا: التحليل التركيبى
هو تحليل التركيب محل الدرس لكشف العلاقات النحوية بين الكلمات فى الجملة ووظيفة كل كلمة بها والتى فيما يسمى بـ"الإعراب والأدوات النحوية المستقلة", ويعرف بــ"Sintaks", أو علم النظم, بحيث قد تكفل بذالك علم النحو فى لغتنا العربية.
رابعا: التحليل الدلالى
هو تحليل العلاقات بين معانى الكلمات المختلفة فى اللغة من خلال الوقوف على جذر الكلمة وبنائها الصرفى, وسياقها الذى تقع فيه, والتحليل الدلالى فى غاية الأهمية , بحيث قد يتصور البعض أن التحليل الدلالى يغنى عنه المعاجم اللغوية, وهذا التصور بعيد عن الصواب لأن المعنى المعجمى أو الدلالة المعجمية ليست كل شيئ فى الوقوف على معانى الكلام إذ لا بد من عناصر لغوية أخرى ذات أثر واضح فى تحديد المعنى وتعيينه. وهذه العناصر هى جزء من معنى الكلام, وذلك لشخصية المتكلم والمخاطب وما بينهما من علاقات وما يحيط بالكلام من ظروف وملابسات ذات صلة به, وكحضور غير المتكلم وغير المخاطب وعلاقاتهم بهما وغير ذلك من أنواع المواقف الإجتماعية المختلفة والتى يطلق عليها عند العلماء البلاغة بــ"المقام", وذلك كان من أريهم"أن لكل مقام مقال, ولكل مقال مقام".
والسر فى ذالك كما عرفنا, أن اللغة هى ظاهرة إجتماعية بحيث هى صورة للمجتمع ترقى برقة وتتدهور بتدهوره, وهى المرآة لعقلية الصادقة لهذا الشعب وتلك الأمة.
وفكرة "المقام" هذه هى المركز أو المحور الرئيسى الذى يدور حول علم الدلالة الوصفية فى الوقت الحاضر. إذ أن المقام هو الأساس الذى ينبغى على ينبنى على الشق أو الوجه الإجتماعى من وجوه لمعنى الثلاثة, وهى: - الوجه الذى تتمثل فيه العلاقات, - الوجه الذى تتمثل فيه الأحداث, - الوجه الذى تتمثل فيه الظروف الإجتماعية التى تسود ساعة أداء "المقال".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شكراً لزيارتك وقراءتك وتعليقك وأرجو أن أراك مرة أخرى